Saturday 7 July 2012

وَطَنٌ أَعِيشُ بِهْ… وَآَخَرٌ يَعِيشُ دَاخِلِي





من تدوينات مكتوب المرحوم - 2011

     اعتدت الحنين إلى الوطن، خصوصا حين ينتابني شعور الوحشة من البشر، وكأن وطني يهمس لي: اجعليني قضيتك أكون مصدر راحتك.. هبيني حبك الذي تُغدقي به على من حولك، أكون مصدر سعدك، وأُعَثِّرُ بطريقك من يستحقك. وهذه الأيام أنا أحن إلى الوطن، وحين أحن إليه؛ أستمع إلى أغانيه وموسيقاه، وأتأمل صوره فأسحر بطبيعته، وأقرأ عنه أكثر وأكثر، وأعقد العزم على عودة قريبة.
     كثيرون يسخرون من مشاعري هذه، ويعتبروني قادمة من عالم الأحلام، ويقولون لي: نحن عشنا بهذا الوطن الذي تتنغمين باسمه، ولا نشتاقه ولا نرغب بالعودة إليه، ونحن أكيدون أنك لو ذقتِ ما ذقناه هناك لما لفظت اسمه حتى.. هل فقدنا عقولنا حتى نترك راحتنا هذه ونذهب حيث الدمار والخراب؟!

     كلماتهم تؤلمني، فها هم أقرب الناس إليّ يتنكرون للوطن! ولطالما حاولت تعديل نمط تفكيرهم، لكنّي سئمت من ذلك، وآثرت الصمت، فأذنيّ أرهقتهما كلماتهم القاسية عن حبيبي الوطن.

     إذاً؛ فَلِحَنيني طقوس خاصة، أبدؤها بالعزلة عمّن حولي، فأنتقل إلى العالم الآخر، وأغوص بالمواقع التي تُشبع حنيني، فأقرأُ حيناً، وأناقش أحدهم حيناً آخر، وأنشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي ما يثير العواطف باستمرار، طبعا دون نسيان الخلفية الموسيقية الملازمة لنشاطاتي تلك. وما أعذب موسيقى الوطن، خاصّة حين يرافقها أصواتٌ بإرادتها حنان، كصوتَيّ مارسيل خليفة، وأحمد كعبور.

     من باب الفضول لا أكثر، اعتدت على قراءة التعليقات التي يدرجها الزوار أسفل المواضيع على مواقع الإنترنت، سواء المكتوبة أو المرئية، ولطالما أزعجتني تلك التعليقات البعيدة كل البعد عن الرقي بالحوار الذي أحلم به بين البشر.

     وفي يوم قريب، وأنا أقرأ التعليقات على أغنية وطنية لبلد عربي تعمّه الفوضى هذه الأيام، أثارت قرفي تعليقاتٌ سخيفةٌ متتاليةٌ لأشخاص من ذاك البلد يتهجمون بها على شخص عربي من بلد مجاور، فقط لأنه أبدى رأيه حول أحداث بلدهم فقال: ألم تسأموا من هذا الحاكم المستبد؟! هيا اذهبوا وثوروا مع أشقائكم في الشوارع، لا تجعلوهم أقلية بسبب رعبكم! كفاكم نفاق! فرصتكم الآن لإسقاط نظام لطالما دمّركم!

     وانهالت على ذاك المسكين الشتائم بشتى أنواعها، وبدأت كلمات العنصرية تظهر بقوة بين أبناء ذاك البلد ضد صديقنا المتحمس للحرية، ما جعل القشعريرة تدُب في جسدي، والأسئلة تتسارع إلى ذهني، أين نحن من العروبة؟! ومن الدين؟! ومن العادات والتقاليد المتشابهة لأبعد الحدود؟!

     ذاك المسكين من بلد والدي، وهؤلاء المرعوبين من بلد والدتي، إذاً نحن شعوبٌ متقاربة! وعائلاتنا متجانسة ببعضها البعض! ولا يزال بيننا من يبحث عن وسيلة للتفرقة! تذكرت على الفور أهلي بذاك البلد، كم أحبهم، وكم أنا أكيدة من حبهم لي، وتذكرت قريب لي من بلد عربي آخر، وهو إنسان رائع، لطالما تمنيت أن يهبني الله رجلا مثله، تذكرت كذلك مجموعة أقارب لي في بلدٍ عربيٍ تحرر مؤخرا من حاكم ظالم، كم خفنا عليهم حين ثورتهم، وكم فرحنا لهم حين نصرهم، تذكرت أيضا معلمات طفولتي في البلد العربي الذي ترعرعت به، وصديقاتي اللاتي اختلفت جنسياتهم واتفقت عروبتهم.

     تُفَرّقنا اللهجات، والقليل من العادات، تماما كأولاد العم، لكن ما يجمعنا أعظم بكثير مما يفرقنا.

     سأنهي كلماتي بالحديث عن أبناء وطني؛ نحن شعبٌ طُرِد من أرضه بعد أن احتلها عدوٌ قاهر، ثلّةٌ بقيت في الأراضي، وكم أغبطهم على ذلك بالرغم مما يعانون، وغالبيةٌ عظمى هُجّرَت بالإكراه، عائلتي منها.

     استضافتنا الدول العربية المجاورة ورحبت بنا، عشنا بها ولا ننكر فضلها، فهي الدول التي آوتنا وخففت ألمنا. لكننا لن نمسح وطننا المسلوب من ذاكرتنا، فهذا ما نشأنا عليه.

     سنغني له باستمرار، وسنبقي خريطته على جدران منازلنا، وسنتحدث عن تاريخه لأبنائنا، وسنَطْمَئن بين فترة وأخرى على مفاتيح ديارنا التي اشتاقتنا، وسنُحَرّض على الجهاد من أجل العودة.

     لن نُحَرّض ضد بلدٍ عربيٍ يأوينا، وإنما ضد عدُوٍ شرّد الآلاف منا.

     يا وطني العربي الذي يستضيفني؛ أعشقك وأحنُّ كلّ يومٍ لوطني، أفخر بكَ وأحارب من أجل وطني، أعيش بكَ وأعمل لأجلك، ويعيشُ داخلي وطني الذي ينتظر عودتي.

* نُشر هذا المقال لأول مرة بتاريخ 19 نيسان 2011

No comments:

Post a Comment