Friday 6 July 2012

صندوق محكم الإغلاق




من تدوينات مكتوب المرحوم - 2010

      أمامه تفقد قدرتها على التعبير، تبتر نصف الكلام المباح، وتكتم كل ما هو مرفوض بلغة العرف! تتمنى لو تبوح، لو تبثه كل مشاعرها، لو تعلمه أن روحها أَلِفَتْ روحه منذ اللقاء الأول.

     منذ رأته استذكرت وجها تحبه كثيرا، وسمعت صوتا من أعماقها يوصيها به، منذ رآها وعلم باسمها؛ صمت للحظات وكأنه استذكر أمرا ما! ثم سألها: هل أعرفكِ؟!

     لم يكن يعرفها، ولم تكن كذلك، ولكن؛ لعلّ روحيهما التقتا منذ زمن بعيد، وهاهي الأقدار تلعب لعبتها كي تجمع هاتين الروحين بزماننا هذا.

     جمعت عنه المعلومات التي ترشدها للتقرب منه، بالفعل اقتربت منه، وعرفته أكثر، بل كان كل ما تشاهده منه مألوفا لديها، فهي تعرفه منذ زمان بعيد.

     كانت تخبر أحبابها عنه، تذكره لهم باستمرار، وتعيد عليهم كلماته بشاعرية، حتى أصبحوا يسألونها عنه إن شغلها همٌ ما، ويُذَكرونها به في أيام حزنها.

     وهو كذلك؛ كان يبادلها المشاعر ذاتها، وكان يذكرها في مجالسه، ولكن؛ كان حديثه عنها أكثر نضجا ورزانة.

     نجحت بالاقتراب منه درجات، شعرت باهتمامه بها، وبمعاملته الخاصة، لكنها فشلت بالتعبير له عما بداخلها.

     كانت تتوقف دائما عند حد هي صنعته بتعاملها معه، خوفا من اختراق حاجز اعتقدت أنه صنعه. كما أنها كانت تخشى أن تفهم بشكل خاطئ، أو أن تلقى رفضا إن هي عبرت عن مشاعرها بصدق وعفوية. لذا كانت تقترب وتبتعد في آنٍ واحدٍ.

     كانت تعي طبيعة مشاعرها تجاهه، إنها أشبه بمشاعر طفلة محبة لوالدها، طفلة لا تشعر بالأمان سوى مع والدها، ذاك الرجل المختلف عن الرجال، كانت تشعر معه بحنان يماثل حنان والدها، واعتناء وخوف لا يقلان عما تلمسه منه.

     مما كان يلفت انتباهها إليه؛ حساسيته المفرطة تجاه الأمور، وحرصه الدائم على التنظيم، وإعطاءَه كل أمر ما يستحق، بل وأكثر، بالإضافة إلى إبداعه غير المنتهي.

     هو كذلك؛ كان ينظر إليها كطفلة لا تستحق سوى الدلال، طفلة على هيئة ملاك، طفلة تبتسم فيبتسم الكون لها.

     مما كان يلفت انتباهه إليها؛ هدوؤها المبالغ به، وصمتها التام! وكان يحب هاتين الصفتين بها، فهو يعرف أنها بصمتها تنصت لما حولها بتمعن، وبهدوئها تراقب ما يجري بعين الناقد، وأنها إن جاء الوقت المناسب للتعبير، فستعبر وبأفضل ما تملك من مفردات.

     ولعله تقمص منها قليلا من هدوئها، كما تقمصت منه بعضا من حساسيته.

     لكنه كان دائمُ الخوف عليها، فهي وبالرغم من ذكائها ومن قدرتها على تحمل المشاق، إلا أنها بحاجة لمن يعتني بها، أو بالأصح، لمن يتبناها، لمن يكون مرجعها كلما شعرت بالوهن.

     بالفعل كانت بحاجة لمن يدفعها للأمام باستمرار، وهو كان يدفعها بمنحها الحب والأمان والثقة.

     كان يوحي لها في كثير من الأحيان أنها يجب أن تتخلّى عن تلك السلاسل التي تقيدها، وأنها يجب أن تحلق في هذا الكون إلى أبعد نقطة ممكنة.

     كانت تتمنى لو تستطيع كسر قيودها تلك، فقط كي تمنحه الحب الذي منحها إيّاه، فقط كي تخبره أنه الرجل الثاني بحياتها، وأنها من خلاله فقط اكتشفت ذاتها، بل وأحبتها أكثر.

     لكنها عبثا تحاول! فالقيود تواجهها كيفما اتجهت! والخوف من فقدان إحساس جميل غريب بمجرد البوح يمنعها.

     قررت أخيرا أن تفتح صندوقا وأن تبثه كل مشاعرها الراقية، ثم أن تغلق الصندوق وتهديه إيّاه. فلا شيء سيعبر عنها كصندوقٍ مليءٍ مغلقٍ بإحكام، ولا شخصَ سَيَعِي قيمة ذاك الصندوق وسيجد مفتاحه كذاك الرجل العظيم.

     حوّلت مشاعرها المحكية إلى كلماتٍ مكتوبة، وأغلقت عليها الصندوق. لكنها بحيرةٍ من أمرها! هل تهديه الصندوق بشكل مباشر؟! أم تتسلل إلى مقرِهِ خفيةً وتضع الصندوق ثم تهرب؟! وجدت أن الحلّ الأخير أسهل لها، وهو ما فعلته.

     قررت الاختفاء بعد فعلتها تلك، فقد خشيت أن يُفسدَ عاملٌ ما تلك العلاقة الصحية التي جمعتهما، أو أن يُلَطخ نقاء مشاعرهما.


      فهي بمجتمعٍ لا يزالُ ضيّقَ أُفُقٍ بتقييم العلاقات بين الذكر والأنثى. 

No comments:

Post a Comment