Showing posts with label فلسطين. Show all posts
Showing posts with label فلسطين. Show all posts

Monday 20 November 2017

رحلة الشتات.. قصة المواطن اكس

كانت تبثّه أشواقها عبر شاشة بحجم اليد حين أشاح بعينيه عنها وقال بصوت مسموع ومكسور "الله ينتقم من اليهود.. همّه سبب كل مشاكلنا".

كان هذا قبل عدة أيام، حيث لم يلتئم الجرح بعد، قبل ذلك بحوالي سبعين عاماً، كان والده جالساً على مقعده الصغير، وكان يقترب بملعقته الممتلئة بوجبته الشهية من فمه حين اقتربت منه والدته على عجل لتمسك بيده، اليد ذاتها التي كانت ممسكة بالملعقة، وتهرب به وببعض حاجيات حملتها دون تفكير إلى حيث لا تدري. بعد فترة من الجري تنبّه والده إلى أنه لم يزل ممسكاً بالملعقة، وكانت لا تزال بقايا الطعام الذي لم يتمكن من تناوله عالقة بها، شعر حينها بشيء غريب يختلج في صدره، حين كبر، عرف أنه شعور الغصة، ذاك الشعور الذي بقي ملازمه حتى يومنا هذا.
 
إلى يومنا هذا، كان لا يزال يذكر حكايات والده الذي وُلد قبل النكبة بستة أعوام، والذي ورغم صغر سنه، إلا أنه بقي محتفظاً بذكرياته الجميلة عن قريته في فلسطين وبذكرياته الأليمة عن النكبة وما خلّفته من شتات. كان كذلك يحتفظ بحكايات جده التي ورثها من والده، جده الذي وُلد قبل مئة عام في المنزل نفسه الذي لم يتمكن والده فيه من إكمال وجبة طعامه ولا من إكمال شريط ذكرياته على نحو يستمتع به من يسمعه.

اقتلاع شعب وزراعة آخر
هذه حكاية من بين ملايين الحكايات التي تمثّل معاناة الشعب الفلسطيني، حكاية تمثّل جزءاً صغيراً جداً مما تعرّض له هذا الشعب من جور وظلم وحالات فراق بين الأهل والأحبة، وما خفي كان أشد عنفاً وظلماً وقهراً.

هذه حكاية بدأت مع معاهدة سايكس بيكو عام 1916، والتي تم توقيعها بين فرنسا وبريطانيا لتقسيم الأراضي العربية الواقعة شرقي المتوسط، بل من قبل، حيث انعقد المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897 في مدينة بازل السويسرية بهدف إقامة وطن للشعب اليهودي في فلسطين تحت حماية القانون العام، مروراً بوعد بلفور المشؤوم عام 1917 حيث أيّدت فيه الحكومة البريطانية قرار إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين وأبدت كامل مساعدتها ليتم ذلك، وبالفعل، تكاتفت قوى العالم حينها، ليحدث ما حدث، ورغم رفض السواد الأعظم من اليهود لهذا القرار، إلا أنهم وبسبب الممارسات النازية ضدهم في أوروبا، اضطروا مرغمين إلى الهجرة لفلسطين. واستمرت الهجرات اليهودية والمعارك في فلسطين حتى تحولت عام 1948 إلى نكبة، حيث تم تهجير أكثر من 750.000 فلسطيني من ديارهم وأراضيهم في فلسطين ليخسروا خلال عمليات التهجير، الكثير من الأهل والممتلكات ويبدأوا حياتهم من الصفر ولكن مع لقب لاجئ.

وفي عام 1967 نكّس العرب رؤوسهم بخسارة فادحة أمام العدو المحتل الذي انتشر كالسرطان في أراضٍ عربية محيطة بفلسطين. لم يستطع العرب بعد ذلك رفع رؤوسهم، فقد بدأ حكامهم بمعاهدات تدعو لتطبيع الحياة بين العرب والعدو المحتل، بدأتها مصر بمعاهدة كامب ديفيد عام 1979، والتي كانت أول خرق للموقف العربي الذي يرفض التعامل مع العدو المحتل، تلتها معاهدة أوسلو بين العدو المحتل ومنظمة التحرير الفلسطينية عام 1993 ومن ثم معاهدة وادي عربة في الأردن عام 1994.

رغم خنوع الحكومات، الظاهر والباطن، إلا أن الشعوب، وحتى يومنا هذا، لم ترفع راية السلام، ولن ترفعها، فالحكاية لم تنتهِ بعد، والماضي لا يزال حاضراً في قلوب وعقول الجيل الثالث والرابع من أبناء النكبة، سواء من فلسطين أو من العالم العربي.
 

ماذا يعني أن تولد فلسطينياً في بلد عربي؟
يعني أن تحمل فلسطين على عنقك، وأن تضمّها في منزلك، وأن تحفظها في عروقك.. يعني أن تعيش في وطن وأن يعيش في داخلك وطن آخر.. يعني أن تكون هويتك مشتركة ومنفتحة ثقافياً وأن تكون نسيجاً مميّزاً، تتداخل فيه الكثير من الملامح، ومع ذلك، سيُفرض عليك الرفض، وسيتم تجاهلك، ولن يتم الاعتراف بك ولا بحبك للبلد الذي تعيش فيه، البلد الذي وُلدت على أرضه، وظننت أنك تنتمي إليه، ستكتشف فيما بعد، أنك تنتمي إلى المظلومين وأن القهر هويتك، وأنك معاقب على شيء لم تفعله، ستشعر أنك بشر فائض عن الحاجة وستنصدم بحقيقة أن بلاد العرب ليست أوطانك، وستُبحر باحثاً عن حقك في الحياة. 

أنا من فلسطين.. تقصد من (إسرائيل)؟
ستصل أخيراً إلى قرار الهجرة من بلاد العرب، فأنت مضطهد من كل الأنظمة العربية، ستشعر حينها بهول ذكريات اللجوء التي سمعت عنها ولم تعشها، فها أنت لاجئ للمرة الثانية، ها أنت تترك مخيمك، وطنك، وتخرج بمفتاحين، مفتاح منزلك في فلسطين ومنزلك في المخيم.



ستشعر بقسط من الحياة، ستأخذ جزءاً من الحقوق، وستكون الفرصة أمامك لنيل المزيد، لكنك ستواجه الإنكار، ستصادف أحدهم وسيسألك "من أين أنت؟"، ستجيب بفخر "أنا من فلسطين"، سيتفاجأ السائل وسيسألك "ماذا تقصد؟"، ستتفاجأ من تفاجئ السائل ومن جهله! سيغلي الدم في عروقك، وستخبره عن فلسطين أكثر، لكنه لم يتجاوب معك، ستُريه أخيراً صورة القدس، ليقول: "آآآه! تقصد (إسرائيل)"!

هنا ستتغير معركتك، فبعد أن كنت في البلاد العربية تبحث عن فسحة حياة، حيث كان معترفاً بفلسطينيتك وغير معترف بك، ستصبح معركتك الآن معركة تاريخية، حيث معترف بك وغير معترف بماضيك، وستستمر المقاومة، سواء هناك أو هنا، لأنك تستحق الحياة ولأن اسمها فلسطين وسيبقى فلسطين.




تجدون التدوينة كذلك على مدونات الجزيرة:


Thursday 17 August 2017

من "الإسرائيلي" الذي يمكننا محاسبته؟

الصفعة كانت كبيرة ومدوية، لم يتردد مرتكبها من الإتيان بها ولم يشعر بالخجل من التعدي على حرمة بلد يستضيفه، أو بالخوف من ردة فعل حكومته التي قد تتأثر علاقتها مع هذا البلد الذي يفتح لها أبواب السلام على مصراعيها وعلى الرحب والسعة، في الوقت الذي يغلقها أمام فلسطينيين شتّتهم ولا يزال يشتّت بهم العدو.
وكيف له أن يتردد وهو من تعلّم في مدارسه أن قتل العرب، وإن كانوا أبرياء، يُعتبر بطولة؟! وكيف له أن يشعر بالخجل وهو الذي يعرف حق المعرفة أن هذا البلد الذي يستضيفه سيفضّ أي مظاهرة ضده إن اقتربت من حدود سفارته؟! وهذا ما حدث ويحدث بالفعل. أما الخوف، فمن يخاف من حكوماته غيرنا نحن العرب؟! ثم أخبروني بحق، كيف له أن يخاف وهو من يسنده كبير القتلة "نتن ياهو"، الذي استقبله بحفاوة، بعد أن ساعدت الحكومة الأردنية بتهريبه عُقب ساعات من الجريمة، وأخبره بأنه تصرّف بشكل جيد وأنه فخور به؟
تعاملت الحكومة الأردنية مع جريمة "حارس السفارة" النكراء برحمة قلّما نجدها إن كان المجرم واحداً منا، وبلطف نفتقده إن كانت جريمة السفارة هذه هي جريمة سفارة عربية شقيقة، حدث ذلك تحت ذريعة أنه دبلوماسي يمتلك حصانة سياسية وقانونية. ولكن، ورغم الفتوى الدبلوماسية، ألم يكن بإمكان حكومتنا أن تحتجز المجرم لفترة أطول؛ لإطالة معاناته بالانتظار ولزيادة حرج دولته المزعومة وحثّها على التفكير بالعواقب التي قد تحدث؟ ألم يكن بإمكان حكومتنا أن تستغل مثل هذه الجريمة وأن تقوم بتجيير الخطيئة الإسرائيلية لمصلحة الأردن والقضية الفلسطينية؟
 
وهنا، يجب التنويه إلى أن هذه الصفعة المدوية لم تُقابل، كما يظن البعض، بصفقة تتعلّق بإزالة البوابات الإلكترونية من محيط المسجد الأقصى، بل إن ما حدث، لم يحدث إلا بفضل المرابطين والمرابطات على أبواب الأقصى. فلا تسرقوا جهودهم!
إن تفكّرنا بأحداث جريمة "حارس السفارة"، التي اختلفت الروايات بشأنها، ولكن الرواية التي تم اعتمادها، حتى من حكومتنا الرشيدة، هي رواية المجرم نفسه "حارس السفارة"، الذي ادّعى أنه قتل الشاب الأردني (الطفل في الأعراف الدولية) محمد زكريا الجواودة، والذي لم يبلغ الـ 17 عاماً، بعد أن تعدّى عليه وحاول طعنه بمفك يحمله بيده على إثر خلاف بينهما، حيث وصل الجواودة لمكان الجريمة (محيط سفارة العدو) بهدف تركيب أثاث في شقة المجرم، وكان برفقتهما الطبيب الأردني بشار الحمارنة، الذي يقوم (للأسف وبكل غرابة) بتأجير عمارته للعدو منذ زمن، والذي قُتل كذلك على يد المجرم نفسه، ولكن وبحسب المجرم، فإنه قتله عن طريق الخطأ.
هل قتله عن طريق الخطأ أم ليدفن الشاهد الوحيد على جريمته ومن ثم ليتمكن من نسج الرواية التي تناسبه؟ وإن صحّت روايته، فهل ما فعله يُعتبر دفاعاً عن النفس أم قتل مع سبق الإصرار؟! ألم يكن بإمكانه ردع هذا الطفل بأقل الطرق إيذاءً أم أنه استغل الموقف ليشفي غليله من الدم العربي؟!
أسئلة كثيرة ومؤرقة تؤدي بنا إلى سؤال جديد: "في يومنا هذا، من هو "الإسرائيلي" الذي يمكننا محاسبته"؟
قبل 20 عام، تحديداً بتاريخ 25/9/1997، أقدم الموساد الإسرائيلي على اغتيال خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الفلسطينية حماس، والتي، وأقولها آسفة، أصبحت تصنّف اليوم إرهابية بنظر أشقاء عرب.
تمّت محاولة الاغتيال على أرض عربية، في الأردن تحديداً، ولكنها كانت بتخفٍ وبصمت، فقد كان العدو يعرف خطورة ما يقوم به فيما لو كُشف، كان يعرف أن اتفاقية السلام التي تجمعه مع الأردن تمنعه من الاستخفاف بهيبة المواطن الأردني وبحياته، ومع ذلك، لم يتمكن من مقاومة نهمه في امتصاص الدم العربي.
لم تكتمل محاولة الاغتيال، لكنها وفي بدايتها، هدّدت حياة مشعل، ما جعل الملك السابق حسين يعتبر ما جرى ضربة غادرة واستهدافاً للسيادة الأردنية وانتهاكاً لمعاهدة السلام، ليقولها بصراحة ووضوح: "إذا مات مشعل فإن اتفاقية السلام ستموت معه". كم نحن بحاجة لمثل هذه التصريحات في أيامنا هذه!
رغم اختلاف الضحية في الجريمتين، ففي جريمة الأمس هي أحد رؤوس المقاومة والتي كنا ولا نزال نفخر بها رغماً عمّن يريد تشويهها في حاضرنا، وفي جريمة اليوم، الضحية تنقسم لشخصين، الأول مطبّع نأسف لانتمائه لنا (الطبيب)، والثاني طفل لا نستطيع الحكم عليه بشكل مباشر. ومع ذلك، كان على الحكومة متابعة القضية بشكل يحترم سيادتها أكثر، فلو وضعنا الآراء السياسية على جنب، سنجد أنه يوجد جريمة قد ارتكبت.
 
السلام لا يعني الاستسلام، هذا ما حاول إيصاله الملك السابق حسين، فاستغل محاولة الاغتيال لصالح الأردن، وهزّ الكيان الإسرائيلي بصفقة ترضي المجتمع الأردني، حيث طالب بجلب الترياق الذي سيشفي مشعل، وبإخراج الشيخ أحمد ياسين، مؤسس حركة حماس من السجون الإسرائيلية، وبإخراج 50 أسيراً آخرين. وبالفعل تم كل ذلك. لتتحول هذه الصفعة الإسرائيلية الصامتة إلى خبر مدوٍ يهزّ الداخل "الإسرائيلي" ويهزم خطته الخجولة.
 
بالنسبة للدوافع التي حرّكت الملك السابق حسين في ذلك الوقت، فقد تكون جاءت كرد فعل سريع على ما قامت به "إسرائيل" حين قتل أردني 7 إسرائيليات في نفس تلك الفترة، أو لامتصاص الغضب العربي الذي قد لا تُحمد عواقبه أو لغير ذلك. بغض النظر عن الأسباب، فقد نجح الملك بزعزعة ثقة العدو وبإنقاذ حياة مشعل وبتحرير مجموعة من الأسرى وعلى رأسهم الشيخ أحمد ياسين، وهذا كان كافياً ليبثّ الفرح في أوساط الأمة العربية وليرضي شعبه وينسيه معاهدة السلام مع العدو ولو لحين.

أما اليوم، فلم يعد بالإمكان محاسبة الأعداء حتى وإن كانوا مجرد حارس طائش نستضيفه في بلادنا!


تجدون التدوينة كذلك على مدونات الجزيرة:

Wednesday 28 September 2016

متطرف قتل متطرفاً.. ولكن

الفاعل بالعنوان هو شخص تجاهل وجوده في دولة قانون ولجأ لقانون الغاب، والمفعول به هو فاعل سابق لطالما صدمتنا مواقفه المنحازة. في دائرة التطرف اجتمع الفاعل والمفعول به، لكن الفعل هو ما فرّق بينهما، فغيّر المعادلة وأزاح أصابع الغضب والمساءلة عن المفعول به لتشير اليوم إلى الفاعل.

لم أتفق يوماً مع توجهات الكاتب الأردني ناهض حتّر، ابتداءً من مواقفه العنصرية تجاه الأردنيين من أصول فلسطينية ووصولاً لتأييده ودعمه لنظام بشار الأسد المجرم، أما بالنسبة للكاريكاتير الذي أعاد نشره على صفحته على فيسبوك قبل فترة والذي أثار غضباً واسعاً في الشارع الأردني أدّى إلى توجيه تهمة "إثارة النعرات المذهبية والعنصرية" إليه، ولأكون منصفة، فقد لمست في حتّر موقف المتراجع حين وضّح في منشور له على صفحته نفسها أنه لم يقصد الإساءة للذات الإلهية وإنما السخرية من كيفية تصوّر بعض المتطرفين للرب، وعلى رغم عدم اتفاقي معه في المجمل، إلا أنني لا أتفق مع الفاعل الذي أرداه قتيلاً صباح أمس على عتبات قصر العدل في وسط العاصمة الأردنية عمّان، حيث كان يتحاكم جراء التهمة التي وجّهت له.

حين وصلني خبر اغتياله غاب صوتي واكتفيت بالصمت والخوف، كيف لشخص في دولة آمنة أن يُقتل بهذه البساطة وفي وضح النهار؟! وأين؟ أمام قصر العدل! لو أن المشهد انتهى عند هذا الحد، لكانت الفاجعة رغم هولها معقولة، فهنالك مجرم واحد وسيلقى حتفه، ولكن الفاجعة العظمى ظهرت بحجم المصفّقين لهذه الجريمة! لو لم أشاهدهم بعينيّ ولم أسمعهم بأذنيّ لما صدّقت ولاعتبرت ما قيل عنهم ليس إلا افتراءات يقصد بها إشعال الفتنة، ولهؤلاء المصفّقين أقول: هل يجوز لنا أن ندافع عن الله بأسلوب لا يرضيه عزّ وجل؟ وإن كنتم تبرّرون هذا الفعل، فهل تقبلونه لكم؟ هل تقبلون أن يتم تحويل قضاياكم من أروقة المحاكم إلى أرصفة الشوارع؟


رداءة الطرح من قبل بعض المواقع الإلكترونية

قُتل حتّر وسرعان ما انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي رابط بعنوان "فيديو لفتاة محجّبة تحاول إسعاف المسيحي ناهض وتثير إعجاب الأردنيين".
استفزّني هذا العنوان بشدّة، فما الهدف منه؟ وهل هذه تعتبر الحادثة الأولى من نوعها التي تظهر تآخي المسلمين والمسيحيين؟ هل نعاني من صراع بين المسلمين والمسيحيين في الأردن؟ لقد درسنا معاً وكبرنا معاً واندمجنا في نسيج واحد على رغم اختلافنا، وقد زادنا هذا الاختلاف جمالاً. فلماذا هذه العناوين الصفراء؟!

ما أريد تأكيده هنا، أنه لو كان حتّر مسلماً لقُتل، فالأمر لا يتعلّق بدينه بقدر تعلّقه بآرائه وهنا تكمن الحكاية.


ماريا السعود.. عيار طائش أم نائب طائش؟

حملت الأيام الأخيرة الكثير من الأحداث المتتابعة في الأردن، كل حدث جديد كان ينسينا ما سبقه، على الرغم من أهميته، فها هو الشاب الأردني سعيد العمرو يستشهد في القدس، نحزن قليلاً، نذكره ثم يغيب ذكره مع بدء "العرس الديمقراطي" في البلاد ثم سرقة بعض صناديق الاقتراع.. غابت حكاية الصناديق وبدأت الاحتفالات بالفائزين، وعلى الرغم من صدور قرار ملكي "شديد اللهجة" بمنع إطلاق العيارات النارية خلال الاحتفالات، إلا أن النائب يحيى السعود تجاهل هذا القرار وركب حصانه الأبيض سعيداً مبتهجاً وسط عيارات نارية تعبّر عن الفرح، ولكن "يا فرحة ما تمّت" فها هي إحدى هذه العيارات تسقط على قريبته ماريا السعود لترديها قتيلة وهي ابنة الـ 18 عاماً، حدث ذلك قبل ساعات من مقتل حتّر.

على إثر ذلك، وبمنتهى السذاجة، تقدّم السعود باعتذار للملك وللشعب الأردني وأكّد على أنه حذّر مؤازريه وناشدهم عشرات المرات حتى لا يستخدموا الأسلحة خلال الاحتفال.. ولكن من يشاهد فيديو الاحتفال لا يلحظ أي اعتراض من السعود جراء استخدام السلاح.


أرجو ألا تغيب حكاية ماريا عن أذهاننا، أرجو أن ينال هذا النائب، وليس من تسبّب بإطلاق النار فقط، العقوبة التي يستحقها.




*تجدون التدوينة كذلك على مدونات الجزيرة:


Monday 5 September 2016

خلص.. فلسطين عيّدت

اعتدت الانتظار طويلاً حتى يتكرّم أحد سائقي التكسي بالوقوف لي والموافقة على نقلي إلى وجهتي، فعلى الرغم من ازدحام شوارع عمّان/ الأردن بهم، إلا أن هذه الشوارع مزدحمة كذلك بالواقفين على عتبات الانتظار.

أزمة الانتظار المهلكة هذه، دفعت كثيراً من الواقفين إلى التنازل عن حقهم بركوب سيارة تكسي خاصة بهم وحدهم، هذه الأزمة نفسها، هي التي مكّنتني قبل حوالي أسبوعين من التعرّف على سائق تكسي يجيد الحديث بثلاث لغات غير العربية، كان يُظهر براعته بالإنجليزية مع كل انعطافة يطلبها منه الراكب الأجنبي الذي يجلس بجانبه.

كانا يتبادلان الأحاديث وأنا أستمع لهما تارة، وأسرح أطواراً، ثم جذب سمعي الراكب الأجنبي وهو يعبّر عن تفاجئه لحديث السائق باللغة الفرنسية، أنا تفاجأت كذلك، فأعدت تركيزي إليهما، كنا قد أصبحنا على مقربة من وجهتي، فتحدثت بعد صمت طويل لأرشده إلى طريقي، في هذه الأثناء، التفت السائق إلى الراكب الذي بجانبه وسأله:

-
ما شلومخا؟ (جملة عبرية تعني "كيف حالك؟")
توقفت حركة السيارة وعمّ الصمت لبضع لحظات، لأكسره بإجابتي:
-
شلومي توف. (جملة عبرية تعني "أنا بخير")
لم يستطع سائق التكسي إخفاء دهشته، التفت إليّ وقال:
-
عمّي.. إنتي من وين؟!

سؤاله أوقعني في حيرة لطالما وقعت بها، كيف تراني أجيب! من أين أنا؟ وهل وطن واحد يكفي لمن نشأ مثلي؟

إن أخبرته بأنني أردنية سأشعر بوخزة في صدري، فكيف نسيت إخباره أنّي يافوية الأصل، وأن والدتي دمشقية، وأنّي أتمتّع بطيبة أهل الحجاز! وإن اكتفيت بنسب نفسي إلى فلسطين، سأشعر بوخزات من تأنيب الضمير، فأين الأردن التي ضمّتني ورعت إنجازاتي؟ أين سوريا التي زادت جمالي؟ وأين السعودية التي صبغتني بطابع ميّزني عمّن حولي؟

بكل الأحوال، وبعيداً عن حيرتي التي وقعت بها، أجبته على النحو التالي لأنفي ظنّه بكوني من سكان فلسطين "الضفة" أو فلسطين "الـ 48":

-
يا ريتني من سكان فلسطين، أنا من هون.. بس تعمّدت أتعلم اللغة العبرية.
-
والله..! وليش؟
أعاد تحريك السيارة وأنا أجيبه كما اعتدت وبكامل ثقتي:
-
لإنها لغة عدوّي.
-
عن أي عدو بتحكي يا عمي؟!
-
عدوّي.. عدوّنا المشترك.. إسرائيل!

نظر إليّ عبر مرآته نظرة متفحّصة، أطال النظر، وأنا كذلك نظرت إليه، كان رجلاً يتجاوز الخمسين من عمره، ببنية منتصبة توحي بأن صاحبها كان رياضياً.. انعطافة واحدة إلى اليمين ونصل إلى وجهتي، أخبرته بذلك، فانعطف وهو يقول لي:
-
القصة مش قصة عدو.. القصة إنه بدنا نعي..
-
(قاطعته): هون لو سمحت..

ترجّلت من السيارة دون معرفة ما يريد الوصول إليه، لم أقصد مقاطعته، لكنني وصلت وهذا يعني انتهاء الحوار، ومع ذلك، فقد شعرت من أسلوبه بأنه ممّن يدافعون عن التطبيع ويبرّرون وجوده، أو قد لا يكون كذلك.. لن أحكم عليه، فلم أكن قد سمعت بقية حديثه.

سرعان ما غابت هذه الحكاية عن ذهني، فلا حبكة تميّزها ولا حكم أستطيع الخروج به، ولكن، ما لم أستطع نسيانه أو فهمه حتى هذه اللحظة، ما حدث معي قبل أسبوع من اليوم، حين أجبرتني من جديد ظروف الازدحام والانتظار الطويل إلى ركوب سيارة أجرة تضمّ راكباً قبلي، كان رجلاً كبيراً يبلغ الستين من عمره أو يزيد.

وأنا أهمّ لركوب السيارة من بابها الخلفي، سمعت السائق وهو يطلب إذن هذا الرجل بالسماح لي بمشاركته السيارة ليجيبه على الفور "بلهجة فلسطينية صافية":
-
طبعاً يا عمي.. هاي زي بنتي.. ولو! أصلاً هاي القصص هيّه اللي مأخرتكوا إنتوا العرب.

لم أفهم ما القصص التي قصدها، فالواضح أنه تعمّق أكثر مما ينبغي.. لكنّني استغربت من قوله "إنتوا العرب" وكأن لهجته ومحياه لا يحملان وجهنا نحن العرب!

أرشدت سائق التكسي إلى وجهتي ثم أطلقت نظري عبر النافذة، لأسمعه يقول وأنا أتأمل أرصفة عمّان الممتلئة بالأشجار والشروخ:

- يعني أرصفتنا مثلاً مستحيل تكون زي هيك.. عنّا الأرصفة عالنظام الأوروبي.. على مستوى واحد ونظيفة وما عليها شجر، عنّا الأعمى بقدر يمشي بكل راحة وسهولة.. مش زي عندكوا. لا والشوارع.. كلها مخططة ومنظّمة.. أنا عمري ما شفت شوارع زي هان..
- سائق التكسي: بس هان الشوارع مخططة كمان..
- وين مخططة؟!
- مخططة بس مش مبينة لإنّا بنمشي فوقها.. بس لو عملنا حادث لا سمح الله بنتخالف.. غير هيك عادي..

طالت مقارنات "عندكوا وعنّا" بين الرجل وسائق التكسي، وأنا لم أفهم بعد هو من أين، إلى أن قال:
- أصلاً نص أراضي الأردن إلنا.. إحنا اللي حاميين هالبلد.. ولا شو فكرك إنت؟

شدّ سائق التكسي قبضته على مقود السيارة، رغم محاولة الكتمان، إلا أن مشاعر الامتعاض ظهرت عليه، ومع ذلك فإنه آثر الصمت، لحظات من الصمت كسرها سائق التكسي الذي لم يستطع الصمت أكثر، ليقول:
- إحنا عنّا أراضي بالبلاد (يقصد فلسطين)، مش مستفيدين منها، ومع هيك مستحيل نبيعها ليهودي.. مع إنه كل يوم بتّصلوا فينا ولاد عمي وبقنعونا نبيعها بس مستحيل نبيعها.
- يا زلمة شو مستفيدين!
- مستفيدين إنه الحق ما يضيع.
- أي حق؟ ولك خلص.. فلسطين عيّدت! كلها كم سنة وبنوخذها كلها.. مالك إنت؟!

عاد سائق التكسي لصمته على مضض، أكملنا الطريق حتى وصل الرجل إلى وجهته، ترجّل من السيارة متّجهاً لأحد فنادق عمّان، أما أنا والسائق، فقد واصلنا الطريق والتعجب يملؤنا.

فاجأني هذا الرجل، لو سمعت ما قاله من شاب في مقتبل العمر لما تفاجأت إلى هذا الحد، فجيل اليوم لم يعش معاناة التهجير والشتات، لم يشهد سرقة فلسطين بكل ما تحمله من خيرات ولم يلمس محاولات طمس أي أثر لتاريخها، ولكن، كيف لرجل بهذا السن أن يكون بكامل تسليمه وولائه؟! كيف له أن يعبّر عن حبّه لمن اغتصب أرضه ودمّر أهله؟!

لم أجد أي إجابة تشفي الغليل، حتى قرأت تدوينة على مدونات الجزيرة، يقول الكاتب في ختامها: "كارثة أوسلو الأكبر من ناحيتي، كانت يوم توجّهت إلى أحد مدراء المدارس "العربية الإسرائيلية" في الداخل الفلسطيني لأخبره بأنه لا بد من العمل أكثر على التوعية بالقضية الفلسطينية وأنه لا يعقل أن يخرج الطفل بعد سنوات من المدرسة وهو لا يعلم ما معنى النكبة ومتى احتلّت فلسطين وكيف يكون علمها وحدودها ونشيدها، فكانت الصاعقة عندما أخبرني: لا مشكلة عندي في أن تكون هناك محاضرات عن فلسطين، فهم جيراننا ولهم علينا حق!".



*تجدون التدوينة كذلك على مدونات الجزيرة:

Saturday 23 May 2015

من الهزة الأرضية التي ضربت نيبال: دروس ونصائح في التغطية الصحفية


في أعقاب الهزة الأرضية الأعنف في السنوات الماضية، والتي ضربت دولة نيبال، الواقعة جنوب شرق آسيا، بتاريخ 25 نيسان/ إبريل الماضي، وصل عدد الضحايا إلى ما يقارب 7.5 آلاف شخصاً.
وفي ظل تداول بعض الصور المزيّفة بين مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعية ونسبها إلى هذه الكارثة الإنسانية، خصّصت هيئة الإذاعة البريطانية BBC مادة على موقعها الإلكتروني تُظهر فيها أصل صورة انتشرت بشكل هائل على مواقع التواصل الاجتماعي وتحديداً فيس بوك وتويتر تحت عنوان "طفل يعانق أخته عقب الهزة الأرضية في نيبال"، ليظهر أن هذه الصورة التُقطت عام 2007 في فيتنام.
على أثر الكارثة التي حلّت بنيبال قام موقع "مركز دارت"، وهو موقع موجّه للصحفيين، بتقديم مجموعة من النصائح والمصادر لتغطية الكوارث الإنسانية والطبيعية ومعرفة الطرق الأفضل للتعامل معها ومع الصدمات التي تتبعها. ننصحكم بالاطلاع عليها كاملة، هنا. وها هي بعض المقتطفات من نصائح اخترناها لكم:
1-وضع خطة مسبقة
التفكير بطريقة تغطية الأحداث حال وقوعها أمر غير مجدٍ وقد يفوّت على المؤسسة الإعلامية الكثير من الأخبار الهامة، لذا، لا بد لها من التفكير مسبقاً بالكيفية الأنسب للتعامل مع الأحداث المفاجئة، على رأسها الكوارث الطبيعية، والسؤال عن مدى كفاية وجهوزية إمكانياتها لتغطية هكذا أحداث.
2-دعم الفريق الصحفي
اعتماد فكرة العمل الجماعي وتوجيه الدعم اللازم من داخل المؤسسة للطاقم الصحفي الذي سيقوم بتغطية الكارثة، يعدّ من أنجح الطرق التي يجب أن ينتهجها المسؤولون في المؤسسات الإعلامية للخروج بإنتاج صحفي مميّز يتزامن مع الحفاظ على تماسك الفريق. وهنا نصائح تساعد على ذلك:
-قبل بدء المهمة
1-الجلوس مع الفريق الصحفي ورسم صورة مسبقة له لما قد يواجهه خلال تغطيته للكارثة، إعلامه بالمخاطر الجسدية والنفسية التي سيتعرض لها، وإرشاده إلى كيفية التعامل معها، مع ضرورة إخباره بما ستقدمه له مؤسسته من دعم خلال ذلك.
2-إظهار التقدير والإمتنان للصحفيين الذين سيغطّون الكارثة، هذا سيدعمهم ويساعدهم على المضيّ قدماً.
3-إيجاد طرق اتصال دائمة بالصحفي للاطمئنان عليه وإشعاره بالأمان على الرغم من ظروف التغطية الصعبة
-خلال المهمة
1-التشجيع الدائم والحث على الاستمرار في العمل، فالأشخاص بشكل عام يصبحون أكثر هشاشة وضعفاً في الصدمات، وتصبح الحاجة إلى دعمهم أكثر أهمية من أي وقت سابق.
2-إيصال رسالة إلى الفريق الصحفي مفادها "لا بأس لو شعرت بالوهن، لا بأس لو أخبرتنا عن مشاعر الخوف والضعف التي تعتريك، فأنت إنسان في نهاية المطاف".
3-الاستمرار بالتذكير بضرورة اعتناء الفريق الصحفي بنفسه، وبحاجته إلى النوم الجيد والأكل وممارسة الرياضة إن استطاع والترفيه للحفاظ على توازنه خلال تغطية الأحداث.
4-توفير كل ما يحتاجه الفريق الصحفي في أرض الحدث، فأي نقص قد يزيد من توتره ويقلّل من إنتاجيته. ننصحكم أيضاً بالاطلاع على نصائح للمحررين والمدراء لمزيد من المعلومات.
-بعد إنجاز المهمة
اشكر فريقك الصحفي على أداء مهمته، بالغ بشكره، أظهر له تقديرك واحترامك، سراً وعلانية، فذلك سيحثّه على مزيد من الإنتاجية. يمكنكم قراءة دليل حول مساعدة المراسلين والمحررين على تغطية الأحداث العنيفة والمؤسفة مع الحرص على حماية أنفسهم والضحايا على حدٍ سواء.
إتقان الصحفي لأخلاقيات التعامل مع الضحية، حتى يخرج في نهاية المطاف بقصة مؤثرة وصادقة دون التعدي على حق أحدهم. من الأخلاقيات التي يجب صونها بالتعاطي مع الضحية:
- احترامها وحفظ كرامتها
- تقبّل رفضها عدم الحديث، ولكن عدم سدّ الباب نهائياً، بل إعطائها وسيلة اتصال في حال غيّرت رأيها، وفي معظم الأحيان ستغيّر رأيها وتعود للبوح بقصتها.
- التعامل معها كحالة منفصلة ومهمة، وعدم اعتبارها رقماً.
- عدم التسرّع بالنشر، والتأكد من كل معلومة تم الحصول عليها من الضحية، حتى لا يتم وضعها أو وضعك بموقف محرج.
- عدم التركيز على الموت وكيفية حدوثه بقدر التركيز على حياة الضحايا قبل موتهم أو قبل أن يحلّ بمنطقتهم الدمار.
- تجنّب إعادة نشر صور الدمار أو الأموات في الذكرى السنوية للكارثة أو الموت، بل التركيز على التحسينات التي تمّت في الأماكن المنكوبة، وكذلك نشر لمحات من حياة من قضوا في تلك الكارثة.
في الوقت الذي ستتابع فيه معظم الوسائل الإعلامية تطور الأحداث بشكل عام وستتعامل مع الضحايا كأرقام، ركّز جهدك على الأفراد، ولاحق حكاياتهم الصغيرة لتخلق منها قصة كبيرة من شأنها أن تؤثّر في القرّاء وتُظهر الجوانب المخفية من الحدث، لكن، وخلال ذلك، تذكّر ما يلي:
- لا بأس لو تأخرت عن موعد تسليم مادتك إن كانت الضحية سبباً في ذلك، فالحصول على مادة جيدة يتطلّب منك الصبر على الضحية التي تعيش حالة مأساوية وتحتاج لأجواء آمنة حتى تشعر بالراحة وتتحدث.
- عبّر لضحيتك عن حزنك لما جرى معه/ها، ولكن، إيّاك وأن تقول للضحية عبارات مثل "إنّي أشعر بمصابك" فهذا سيشعر الأخير بمبالغتك وبعدم صدقك.
- لا تبدأ بأسئلة صعبة ومعقدة، بل اسأل ببساطة عمّا حدث واستمع، حينها ستحصل على كل الإجابات.
- تجنّب بعد انقضاء الكارثة إعادة نشر صور الضحايا، فهذا قد يزعج أهلهم أو يؤثر سلباً عليهم.
- مهما كانت السرعة مهمة في عملك الصحفي، عليك أن تتوخّى الحذر قبل النشر، والتحقق، ثم التحقق لتتجنب أي خطأ قد يؤثر سلباً على الضحية.
لقراءة النصائح والإرشادات الكاملة، انقر هنا.
تحمل الصورة رخصة النطاق العام على ويكيميديا، بواسطة Hilmi Hacaloğlu.

*تجدون التقرير كذلك على الموقع الإلكتروني لشبكة الصحفيين الدوليين  :ijnet

Thursday 26 March 2015

فلسطينيو سوريا.. رحلة لجوء جديدة

حتى هذه اللحظة، وعلى رغم الفراق والضياع، التهجير والتهجين، اختلاط اللهجات والجينات، إلا أن هويتي لا تزال فلسطينية.

هذا ما أكده لي سائق تكسي في مساءٍ ليس ببعيد، حين كنتُ أهمّ بإعطائه أجرته بعد أن أوصلني إلى وجهتي، ليفاجئني بلهجة فلسطينية صافية، وهو يقول "حكيِك وهِيئتك يا عمو بيؤولوا إنك فلسطينية، ولا أنا غلطان؟"، شعرتُ بنشوة النصر، ملأني الفخر، فرفعتُ رأسي على الفور وأجبته بابتسامة تعشق الحياة "صحيح أنا فلسطينية".

آآآه ما أعظمه من شعور! فلا تزال ملامحي تحملُ هويتي، وها هو لساني يُخبر عنّي وعن جيلَيْن سبقاني.

آآآه ما أجملني! آآآه كم أنا فلسطينية!

ولكن؛ ما أبشع ذاك الشعور حين يضمحل، حين يحلّ مكانه الخزيّ والعار، حين يذكّرك أنك نسيت جزءاً منك، أنك أصبحت بعيداً عنك!

آآآه ما أبشعني! آآآه كم أنا غريبة اليوم!


حاصِر حصارك

في أكثر من 100 مدينة حول العالم أُقيمت في الأيام الماضية فعاليات أسبوع "حاصر حصارك" العالمي لمقاومة الاستعمار والفصل العنصري الصهيوني.

في عمّان عاصمة الأردن، وفي مسرح البلد تحديداً، حضرتُ جزءاً من هذه الفعاليات، لقد كنتُ متعطشة جداً لجرعة غضب جديدة، لحق عودة يقترب كل يوم، لأذكّر نفسي بوحشية الاحتلال الصهيوني في الضفة وقطاع غزة، لأعيش مقاومة يسطُرُها بعزة وكرامة شعبُ فلسطين الأبيّ، شعبي الذي بدأ يتلاشى صوته في خضمّ الأحزان العربية المحيطة. 





فلسطينيون لا مرئيون يعيشون في سوريا


"لا سبيل للعودة الآن، يا صديقي" شدّني اسم الفيلم الوثائقي للمخرجة اللبنانية كارول منصور، ففي قاموسي، عودة مرادف لفلسطين، وأي مرادف لفلسطين يُلزمني بأن أكون أول الحضور.


بنيتُ في مخيّلتي الكثير من السيناريوهات عمّا قد يقدمه الفيلم عن فلسطين، لكنّي نسيتُ سيناريو واحداً.. سيناريو فاجأني كصفعة والد يخشى على أبنائه من الهلاك أكثر.

إذاً، هو أسبوع مختلف، فقد تحدث عن فلسطينيي الشتات الأقل حظاً، الأكثر نسياناً.. هؤلاء الذين يعيشون تاريخ أجدادهم، تاريخ النكبة الأولى، ولكن، بنكهة سورية، وما أمرّها من نكهة.

آآآه كم أنا صغيرة! كيف لم أتذكرهم من قبل! كيف نسيتهم إلى هذا الحد! إنهم يتقاسمون مع السوريين الخوف والقلق، الموت والفقدان، النزوح واللجوء، لكننا لا نراهم، لا نشعر بهم!



مخيم اليرموك.. نبض فلسطين في سوريا

كثيراً ما كنتُ أحتار وأضيع إن سألني أحدُهم "من أين أنتِ؟"، كيف تُراني أجيب! من أين أنا؟ وهل وطن واحد يكفي لمن نشأ مثلي؟

في كل مرّة أجيبُ بها بأنني أردنية أشعر بوخزة في صدري، فكيف نسيتُ إخبارهم أني فلسطينية من يافا، أن والدتي سورية من دمشق، أنّي وُلدت في السعودية واكتسبتُ طيبة أهل الحجاز!

وفي كل مرّة أكتفي فيها بنسب نفسي إلى فلسطين، أشعرُ بوخزاتٍ من تأنيب الضمير، فأين الأردن التي ضمّتني ورعت نجاحي! أين سوريا التي زادت جمالي! أين السعودية التي صبغتني بطابع ميّزني عن كل من حولي!

في بداية الفيلم، تم التحدث عن هذه الجزئية، ففرحتُ بأنني لستُ الوحيدة، جميعنا نحن الفلسطينيون سواسية في هذا الشعور وإن اختلفت حكاياتنا.

في الفيلم، كان التركيز الأكبر على مخيم اليرموك، على هجرة الفلسطينيين الجديدة، منهُ إلى لبنان فجنيف وباريس.

كانوا صامدين، مقاومين ككثير من السوريين، فهنا رائحة فلسطين، هنا البدء الجديد، هنا الأمل بغدٍ أجمل.. 

ولكن، ومع إغارة طائرات الميغ القاسية في الأيام الأخيرة من عام 2012 بدأ النزوح، بدأت الهجرة ومن ثم اللجوء الجديد، وبدأ الحصار على من اختار البقاء.

هل لأنهم احتووا أشقاءهم السوريين الذين نزحوا للمخيم عندما اشتد العراك؟! أم لأنهم أصل المقاومة والصمود، وهذا بحد ذاته مخيف؟! أوليسوا هم أبناء شعب تغنّى النظام باتباع سياسة المقاومة والممانعة مع مُحتله؟ أولم يفعل ذلك كُرمى لعيون شعب فلسطين المحاصر اليوم والمعتقل في سجونه؟



فستق، أمي والفراق

في الفيلم أبطال صغار وكبار، أبطال من عمر النكبة الأولى، بل وأكبر، وآخرون لم يتجاوزوا الـ10 أعوام، أبطال حملوا وطنهم الأول والثاني في قلوبهم ورحلوا في رحلة جديدة نحو المجهول.

يقول أحدهم بلهجة فلسطينية ممزوجة بالسورية "خلِئت لاجئ، بس أرجع أختار إني كون لاجئ! اختيار صعب".. يضيف آخر "الاشتياق حرفة" أصبحنا نحن الفلسطينيون نمتهنها.. نسمع صوتاً جديداً "بعد ما كان حلمي أرجع فلسطين، صار حلمي أرجع 
المخيم"، تضيف سيدة "كنت بسوريا حزنانة على حالنا.. بس لمّا جيت هون علبنان وشفت وضع الفلسطينية حمدت الله عالنعمة اللي كنا عايشين فيها".

وعلى رغم المرارة، إلا أن الفكاهة لا تزال تداعب وجدان الشعب الفلسطيني.. يشبّه لاجئ فلسطيني سوري في لبنان مخيم اليرموك في سوريا بأرقى شوارع باريس إذا ما تمّت مقارنته بمخيم شاتيلا في لبنان، لكنه سرعان ما يتراجع عن تشبيهه المبالغ فيه بأسلوب أضحك المشاهدين.

يظهر شاب من مخيم اليرموك، يحلم بالهجرة إلى السويد، لكنه حزينٌ على والدته، كيف ستقدرُ على فراقه وهو آخر إخوته في المخيم، جميعهم رحلوا، لم يبقَ سوى هو ووالدته.

يقول "إمي بدها ياني أسافر، بتشجعني ألاقي مستقبل أحسن.. بتقول إنها رح تتحمل.. بس هيّي كذابة! كيف رح تقدر تعيش من غيري! كيف مش حتشتقلي! إمي كذابة" يضيف تأكيداً لما يقوله وبأسلوب أضحك المشاهدين كذلك "أنا جبت قطة من الشارع، سمّيتها فستق.. ما خلّفتها، بس لقيتها جوعانة فأخدتها وربّيتها.. بدي أسافر معها، عم بطلّعلها وراق سفر.. لإنه ما بقدر أتركها، قلبي تعلّق فيها مع إنها مش بنتي.. كيف إذاً إمي رح تعيش وأنا بعيد عنها!".

جميع من في هذا الفيلم تحدث، تحدث ليطهّر روحه ويبدأ رحلته بأمل جديد، ليحافظ على مقاومته في درب يفيض بالألم.


سارة عودة.. المرأة الفلسطينية بصمودها وعزيمتها

رصاصة قنّاص نقلتها إلى عالم أجمل وأنقى، عالم بعيد عن الحصار والذلّ، صعدت بها إلى السماء لتجمعها بزوجها.

إنها الفلسطينية سارة عودة، ابنة مخيم اليرموك، ابنة الـ25 ربيعاً، ها هي ترسم بدمائها لوحة جديدة لشعب عاش النكبات واللجوء مرّات عديدة.

أُجبرت على ترك مخيّمها وخطيبها علاء فرحان بسبب الحصار، لجأت إلى بلغاريا، وعبر الإنترنت كُتب كتابها على علاء، أصبحا زوجان رغم الحصار، رغم المسافات.

رفضت البقاء في بلغاريا بعد أن علمت باستشهاد زوجها، عادت لتزور قبره، وطلبت أن تُدفن إلى جانبه.

قبل أيام، علم الجميع بنبأ استشهادها، تم قنصها وهي تنتظر كرتونة الغذاء التي تقدمها منظمة الأونروا لعدد قليل من أهالي المخيم.

ها هي اليوم ترقد بحب وسلام بجانب زوجها علاء، ها هي اليوم تعلّمنا درساً في الحب والوفاء، تخبرنا كيف تكون التضحية، ها هي اليوم تضيف معنى للرجولة.



أيّ حب هذا الذي سطرتيه بقلبك يا سارة؟! وأين نحنُ منكِ؟! أين هي منظمات حقوق الإنسان عن هذا المخيم؟ عن أكبر تجمّع للفلسطينيين في سوريا؟! أين هم الفصائل الفلسطينية؟!