Showing posts with label تهجير. Show all posts
Showing posts with label تهجير. Show all posts

Monday 20 November 2017

رحلة الشتات.. قصة المواطن اكس

كانت تبثّه أشواقها عبر شاشة بحجم اليد حين أشاح بعينيه عنها وقال بصوت مسموع ومكسور "الله ينتقم من اليهود.. همّه سبب كل مشاكلنا".

كان هذا قبل عدة أيام، حيث لم يلتئم الجرح بعد، قبل ذلك بحوالي سبعين عاماً، كان والده جالساً على مقعده الصغير، وكان يقترب بملعقته الممتلئة بوجبته الشهية من فمه حين اقتربت منه والدته على عجل لتمسك بيده، اليد ذاتها التي كانت ممسكة بالملعقة، وتهرب به وببعض حاجيات حملتها دون تفكير إلى حيث لا تدري. بعد فترة من الجري تنبّه والده إلى أنه لم يزل ممسكاً بالملعقة، وكانت لا تزال بقايا الطعام الذي لم يتمكن من تناوله عالقة بها، شعر حينها بشيء غريب يختلج في صدره، حين كبر، عرف أنه شعور الغصة، ذاك الشعور الذي بقي ملازمه حتى يومنا هذا.
 
إلى يومنا هذا، كان لا يزال يذكر حكايات والده الذي وُلد قبل النكبة بستة أعوام، والذي ورغم صغر سنه، إلا أنه بقي محتفظاً بذكرياته الجميلة عن قريته في فلسطين وبذكرياته الأليمة عن النكبة وما خلّفته من شتات. كان كذلك يحتفظ بحكايات جده التي ورثها من والده، جده الذي وُلد قبل مئة عام في المنزل نفسه الذي لم يتمكن والده فيه من إكمال وجبة طعامه ولا من إكمال شريط ذكرياته على نحو يستمتع به من يسمعه.

اقتلاع شعب وزراعة آخر
هذه حكاية من بين ملايين الحكايات التي تمثّل معاناة الشعب الفلسطيني، حكاية تمثّل جزءاً صغيراً جداً مما تعرّض له هذا الشعب من جور وظلم وحالات فراق بين الأهل والأحبة، وما خفي كان أشد عنفاً وظلماً وقهراً.

هذه حكاية بدأت مع معاهدة سايكس بيكو عام 1916، والتي تم توقيعها بين فرنسا وبريطانيا لتقسيم الأراضي العربية الواقعة شرقي المتوسط، بل من قبل، حيث انعقد المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897 في مدينة بازل السويسرية بهدف إقامة وطن للشعب اليهودي في فلسطين تحت حماية القانون العام، مروراً بوعد بلفور المشؤوم عام 1917 حيث أيّدت فيه الحكومة البريطانية قرار إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين وأبدت كامل مساعدتها ليتم ذلك، وبالفعل، تكاتفت قوى العالم حينها، ليحدث ما حدث، ورغم رفض السواد الأعظم من اليهود لهذا القرار، إلا أنهم وبسبب الممارسات النازية ضدهم في أوروبا، اضطروا مرغمين إلى الهجرة لفلسطين. واستمرت الهجرات اليهودية والمعارك في فلسطين حتى تحولت عام 1948 إلى نكبة، حيث تم تهجير أكثر من 750.000 فلسطيني من ديارهم وأراضيهم في فلسطين ليخسروا خلال عمليات التهجير، الكثير من الأهل والممتلكات ويبدأوا حياتهم من الصفر ولكن مع لقب لاجئ.

وفي عام 1967 نكّس العرب رؤوسهم بخسارة فادحة أمام العدو المحتل الذي انتشر كالسرطان في أراضٍ عربية محيطة بفلسطين. لم يستطع العرب بعد ذلك رفع رؤوسهم، فقد بدأ حكامهم بمعاهدات تدعو لتطبيع الحياة بين العرب والعدو المحتل، بدأتها مصر بمعاهدة كامب ديفيد عام 1979، والتي كانت أول خرق للموقف العربي الذي يرفض التعامل مع العدو المحتل، تلتها معاهدة أوسلو بين العدو المحتل ومنظمة التحرير الفلسطينية عام 1993 ومن ثم معاهدة وادي عربة في الأردن عام 1994.

رغم خنوع الحكومات، الظاهر والباطن، إلا أن الشعوب، وحتى يومنا هذا، لم ترفع راية السلام، ولن ترفعها، فالحكاية لم تنتهِ بعد، والماضي لا يزال حاضراً في قلوب وعقول الجيل الثالث والرابع من أبناء النكبة، سواء من فلسطين أو من العالم العربي.
 

ماذا يعني أن تولد فلسطينياً في بلد عربي؟
يعني أن تحمل فلسطين على عنقك، وأن تضمّها في منزلك، وأن تحفظها في عروقك.. يعني أن تعيش في وطن وأن يعيش في داخلك وطن آخر.. يعني أن تكون هويتك مشتركة ومنفتحة ثقافياً وأن تكون نسيجاً مميّزاً، تتداخل فيه الكثير من الملامح، ومع ذلك، سيُفرض عليك الرفض، وسيتم تجاهلك، ولن يتم الاعتراف بك ولا بحبك للبلد الذي تعيش فيه، البلد الذي وُلدت على أرضه، وظننت أنك تنتمي إليه، ستكتشف فيما بعد، أنك تنتمي إلى المظلومين وأن القهر هويتك، وأنك معاقب على شيء لم تفعله، ستشعر أنك بشر فائض عن الحاجة وستنصدم بحقيقة أن بلاد العرب ليست أوطانك، وستُبحر باحثاً عن حقك في الحياة. 

أنا من فلسطين.. تقصد من (إسرائيل)؟
ستصل أخيراً إلى قرار الهجرة من بلاد العرب، فأنت مضطهد من كل الأنظمة العربية، ستشعر حينها بهول ذكريات اللجوء التي سمعت عنها ولم تعشها، فها أنت لاجئ للمرة الثانية، ها أنت تترك مخيمك، وطنك، وتخرج بمفتاحين، مفتاح منزلك في فلسطين ومنزلك في المخيم.



ستشعر بقسط من الحياة، ستأخذ جزءاً من الحقوق، وستكون الفرصة أمامك لنيل المزيد، لكنك ستواجه الإنكار، ستصادف أحدهم وسيسألك "من أين أنت؟"، ستجيب بفخر "أنا من فلسطين"، سيتفاجأ السائل وسيسألك "ماذا تقصد؟"، ستتفاجأ من تفاجئ السائل ومن جهله! سيغلي الدم في عروقك، وستخبره عن فلسطين أكثر، لكنه لم يتجاوب معك، ستُريه أخيراً صورة القدس، ليقول: "آآآه! تقصد (إسرائيل)"!

هنا ستتغير معركتك، فبعد أن كنت في البلاد العربية تبحث عن فسحة حياة، حيث كان معترفاً بفلسطينيتك وغير معترف بك، ستصبح معركتك الآن معركة تاريخية، حيث معترف بك وغير معترف بماضيك، وستستمر المقاومة، سواء هناك أو هنا، لأنك تستحق الحياة ولأن اسمها فلسطين وسيبقى فلسطين.




تجدون التدوينة كذلك على مدونات الجزيرة:


Friday 9 June 2017

من أمثال صالح ومروة تأتي الهزائم

أكثر من 10 أعوام مضت ولا تزال ذكرى معلمة الرياضيات من أجمل الذكريات التي أحتفظ بها في وجداني وأسترجعها كلما واجهتني عقبة، فهي من حرّك خيالي وزرع بداخلي التحدي والإصرار.

كنت في المرحلة الإعدادية حين جمعني القدر بها، لم تكن مختلفة عن المعلمات اللاتي سبقنها، ولا حتى عمّن لحقنها، لم تكن لطيفة إلى حد يأسر من حولها ولم تتميّز بقدرتها على تبسيط المادة، لم تعاملني معاملة خاصة ولم تأتنا بأسلوب تدريس جديد، على العكس، كانت رتيبة الشرح، قاسية الامتحانات وشحيحة العلامات، لكنني أحببتها.. وهذا كل ما في الأمر!

لا أذكر كيف تسلّل حبها إلى قلبي ولا المعطيات التي أدّت إلى تكوينه، لكنني أذكر نتيجته جيداً، لقد حصلت في العام الذي التقت فيه روحَينا على علامة كاملة في مادة الرياضيات، كانت تلك أول وآخر مرة أحقق فيها نجاحاً أفخر به في مادة بكيت فيما بعد من صعوبة شِفراتها.
 إنه الحب، ولا شيء سوى الحب قادر على تغيير الأفكار وتبديل الأحوال، وبمقدار الحب يدوم الحال الجديد وينتصر أو يهزمه التلاشي.


حلب.. نداء عاجل

مع انخفاض درجات الحرارة ارتفعت وتيرة الأحداث في الأحياء الشرقية لمدينة حلب السورية، حيث شهدت أسبوعاً دامياً ملأ شوارع المدينة بحكايات منسوجة بالصمود، وجرّد مدن العالم من إنسانيتها إن لم تهتف باسم حلب.

كثيرون هم الذين فقدوا جزءاً من إنسانيتهم، وكثيرون هم الذين هتفوا.. امتلأت مواقع التواصل الاجتماعي بنداءاتهم، واكتظت الشوارع بهم.. يوم، يومان، ثلاثة، أربعة، خمسة.. ثم ماذا؟ كلٌ عاد إلى حياته.

قبل تلك الأيام وقع الحصار وارتُكبت المجازر، وفي تلك الأيام اشتد الخناق فالتفت العالم لنداءات المدينة المنكوبة وتم الاتفاق على إخلائها من أهلها لضمان سلامتهم، ليسود بعد ذلك الصمت، رغم بدء الحدث الأقسى، حدث التهجير، بكل ما يحمله من إحباط.

الآن وبعد أسبوعين من فورة الغضب وتهجير حوالي 25 ألف شخص من منازلهم، هدأ الجميع، غابت حلب من شريط الأخبار العاجلة، وتبخّرت من مواقع التواصل الاجتماعية، كما اندثر ذكرها من الشوارع المتضامنة، على الرغم من أن أنقاضها حتى هذه اللحظة تدفن عائلات ماتت دون أن تحقق أحلامها، وعلى الرغم من أن بعضاً من أهلها المهجّرين ماتوا ويموتون من شدة القهر والبرد.

راجعين يا هوى
امتلأت عينيّ في ذلك الأسبوع الدامي بزخم من المشاهد القاسية والدامية التي تدمع لها العين ويعتصر لها القلب ألماً، فقدت ساعات من نومي وأنا أفكر بسبب ما وصلنا له، أصبحت حلب بطلة نقاشاتي مع الأصدقاء، وكان يصيبني الهم والحزن كلما وجدت مصفقاً ومبرراً للمجازر القائمة، اقتسمت لأهلي في حلب نصيباً من دعائي وشاركت من حولي أخبارهم، لعلّ وعسى.. لكنني ومع مرور الأيام وكعادة الإنسان التي جُبل عليها، عدت لحياتي الاعتيادية.

كل تلك المشاهد الحزينة التي شغلتني لبرهة من الزمن، غابت الآن، لست أنا الوحيدة، ها هي تغيب كذلك من منشورات أصدقائي على الفيسبوك وتُستبدل بمشاهد مليئة بألوان الحياة، ربما هكذا نحن البشر، بطبعنا نشتاق إلى الفرح ونركض خلفه.

غابت كل تلك الأحداث إلا صورة وحيدة بقيت تداعب ذاكرتي وتُسعد بصري كلما عدت لها، إنها صورة "صالح ومروة" الزوجان.. الحبيبان اللذان تشاركا الحصار وويلاته.. عاشا الظلم بكل طقوسه.. "صالح ومروة" الحبيبان اللذان اختصرا بحر كلمات في وصف الثورة.. اختصراه بصورة تفيض بالحب وتنطق بالانتماء.. صورة تعبّر عن عائلات حلب التي تشاركت الألم وصبرت.. صورة منهكة بتفاصيلها قوية ببنيانها.

على الرغم من كل هذا الجمال الموجود في الصورة، يأتي من يعلّق وهو جالس على مقعده الوثير ليقول "من أمثال صالح ومروة سقطت حلب" بل من أمثال "صالح ومروة" بدأت الثورة السلمية وستنتصر بأمثالهما.
فالحب يصنع المعجزات ولا شيء غيره..


*تجدون التدوينة كذلك على مدونات الجزيرة:

Tuesday 20 September 2016

كم كنت ثقيلاً يا جحش العيد

اعتدنا في بلاد الشام أن نطلق على اليوم الذي يلي آخر أيام العيد اسم "جحش العيد"، لا أعرف من ابتدع هذا الاسم ولا كيف أصبح هذا اليوم مكمّلاً رسمياً للعيد، نواصل فيه الزيارات ونفتح أبوابنا لمن لم يتمكن من زيارتنا في أول الأيام، ولكن ما أعرفه بأنه كان يوماً خفيفاً ولطيفاً، نتمنى أن يستمر أياماً حتى لا تغيب أجواء العيد ويعود إرهاق الدوام.

هذه المرة شعرت بـ "جحش العيد" في اليوم الأول، وبعد صلاة العيد مباشرة، لكنه كان ثقيل الظل، بشع المظهر، كان الخوف ظاهرا على محياه والتوتر واضحا من هندامه، ومع ذلك وبكامل وقاحته أصرّ على الظهور وتمثيل طقوس الفرح في مكان انتزعه من أهله بالقوة، مكان لا تزال رائحة الدماء والدمار تفوح في أجوائه.

حتى هذه اللحظة أحاول تحليل المشهد الذي ظهر به هو وأتباعه، لكنني أقف عاجزة ومذهولة، فكيف لكل هذه البشاعة أن تجتمع في إنسان؟! وهل يستحق الإنسانية من يقصف مدينة طوال خمسة أعوام؟ من يحاصرها ويمنع الطعام عن أهلها ثم يضعهم أمام خيارين؛ الهجرة أو الإبادة؟

هذه المرة الأولى التي أشاهد فيها صلاة عيد خاوية من ألوان الفرح، فلا يوجد أطفال يتباهون بملابسهم، ولا صوت لضحكات النساء، لا يوجد باعة متجولون في الطرقات
خلت داريا من سكانها فسكنت إلى الوحدة، سكنت رغم جرحها العميق، ومع ذلك، فقد اخترق السكون بضجيج مركباته، وداس على الجرح حين دخلها أول أيام العيد راقصاً وضاحكاً رغم الدماء التي لم تجفّ بعد، دخلها برفقة أتباعه لأداء صلاة العيد.

هذه المرة الأولى التي أشاهد فيها صلاة عيد خاوية من ألوان الفرح، فلا يوجد أطفال يتباهون بملابسهم، ولا صوت لضحكات النساء، لا يوجد باعة متجولون في الطرقات ولا تجمّعات حول أضاحي العيد، لا يوجد سوى قتلة متسلّقين على ظهر الدين.

شاهدت الفيديو الذي انتشر لصلاة بشار الأسد في داريا واستمعت لما قاله بعد الصلاة، فلمست اللا عقلانية في خطابه والتوتر في حركاته، وشعرت بعدم تصديقه لكل ما يحدث، بدا لي كالطغاة الذين نقرأ عنهم في كتب التاريخ، بل أكثر إجراماً، فتراءت لي صورته وهو مدفون بجانبهم، وسرعان ما تبادرت إلى ذهني قصيدة "عن إنسان" للشاعر الفلسطيني محمود درويش، التي كلّما قرأتها تذكّرت حالنا نحن الشباب العرب، حالنا منذ نعومة أظفارنا، منذ شباب أجدادنا، وحتى في شبابنا.. أحب هذه القصيدة، فرغم الظلام الدامس الذي يعيش فيه عالمنا العربي، إلا أنها تخبرنا بأن الليل زائل وبأن شمس الانتصار ستشرق من جديد. إليكم القصيدة:

وضعوا على فمه السلاسل
ربطوا يديه بصخرة الموتى
وقالوا: أنت قاتل!
أخذوا طعامه والملابس والبيارق
ورموه في زنزانة الموتى
وقالوا: أنت سارق!
طردوه من كل المرافئ
أخذوا حبيبته الصغيرة
ثم قالوا: أنت لاجئ!
يا دامي العينين والكفّين
إن الليل زائل
لا غرفة التوقيف باقية
ولا زرد السلاسل
نيرون مات ولم تمت روما
بعينيها تقاتل
وحبوب سنبلة تجفّ
ستملأ الوادي سنابل


*تجدون التدوينة كذلك على مدونات الجزيرة: