Sunday 31 December 2017

أنيقة رغم ارتدائها للحجاب

قبل أيام قليلة، سمعت مجموعة فتيات غير محجبات، واعذروني على استخدامي أسلوب التصنيف في وصفي، لأن لي أسبابي التي ستصلكم من خلال قراءتكم للتدوينة، يصفن فتاة محجبة، دار بينهن هذا الحوار:
- شفتوا قديش حلوة ومرتّبة!
- غريب مع إنها محجبة!
- جد قليل ما تلاقي بنات محجبات بيهتموا بشكلهم!

اندهشت من دهشتهن، وتساءلت بيني وبين نفسي "هل حقاً يلغي الحجاب الأناقة؟!" تذكرت على الفور فترة دراستي الجامعية وما تبعها من تدريب ثم عمل، كثيراً ما كنت ومازلت أقابل فتيات غير محجبات معجبات بطريقة ارتدائي للحجاب، كُنّ يُطرين على كيفية وضعي لغطاء الرأس وعلى حُسن تنسيقي للونه مع باقي الملابس، كُن يخبرنني أنني أحبّب لهن شكل الفتاة المحجبة، والتي تظهر بالمعتاد بشكل متأخر وغير أنيق.

كان يسعدني كلامهن، ولكن، حين أعدت التفكير فيه بعد سماعي للحوار السابق، وجدته لا يخلو من القسوة والإقصاء رغم أنه يبدو لطيفا للوهلة الأولى، تماماً كمن يصف أحدهم بأنه رجل جيد ثم يتبع وصفه بـ "لكنه غير مسلم"، أو من يعجب بفتاة لكنه يتردد في خطبتها لأنها غير محجبة، على الرغم من أن الحجاب قناعة قد تظهر في أي وقت.

هل الأناقة والموضة حكر على فئة معينة من الفتيات؟
لم أكن أجد أن طريقتي في وضع الحجاب مميّزة أو مختلفة عن طريقة كثير من الفتيات المحجبات، ولكن وبطبيعة الحال، كانت تعكس لمستي الخاصة، تلك اللمسة التي تميّز كل شخص عن غيره، حتى لو صادف أن ارتدى شخصان الملابس نفسها، ستجد ولو فرقاً صغيراً بينهما، هذا الفرق هو الاختلاف الذي قد ينقل الشخص إلى قمة الأناقة أو العكس.

إذاً فالموضوع بأكمله يعتمد على الذائقة، فقد تقابل فتاة لا ترتدي الحجاب ولا تظهر بملابس ملائمة للمكان الذي تتواجد فيه ولكنها مقبولة اجتماعياً أكثر من تلك التي أحسنت اختيار الملابس ولكنها أضافت إليها غطاء الرأس الذي تؤمن به. قد يستهجن البعض حديثي أو يشكّ بأنه يحدث في مجتمع عربي، ولكن وللأسف، هذه حقيقة، فقد أفرزت مجتمعاتنا العربية الكثير من الفئات التي أصبحت تنفر من الفتاة المحجبة، لا لشيء سوى لمظهرها الذي يوحي بالرجعية والانغلاق، فلم يعُد الحجاب في نظر تلك الفئات عقيدة، بل عادة تخصّ النساء الكبيرات بالسن.

لهذه النظرة أسباب كثيرة، وعجيبة في بعض الأحيان، حيث أصبح من الطبيعي جداً أن تصادف فتاة، لن أصفها بأنها غير محجبة، وإنما غير محتشمة، والفرق واضح بين عدم الحجاب وعدم الحشمة، تسير مع والدتها التي لا تضع غطاء الرأس فحسب، وإنما الوجه كذلك. فأي تناقض هذا بين جيلين من منزل واحد؟! ولكن ومن وجهة نظري، فإن تلك النظرة، جاءت بالدرجة الأولى بسبب أحكامنا التي لم تعد مبنية على الجوهر وإنما على الظاهر، الظاهر البلاستيكي، التابع والملمّع.


فتيات يحملن الحجاب في قلوبهن ويخشين من إظهاره
أنا لا أتحدث عن فتيات مسلمات في بلاد أوروبية، بل هنا، في بلادنا العربية، حيث أصبح الخوف من الرفض أو التصنيف يجعل الفتيات، رغم إيمانهن بالحجاب، يتجنبن الاقتراب منه أو يخلعنه بعد سنوات من ارتدائه. في ما مضى، سمعت عن فتاة لطالما وقفت أمام المرآة، تجرّب مختلف لفّات الحجاب، وكلما تسوّقت اشترت غطاء رأس جديد، لكنها ورغم إيمانها به مترددة بأمر ارتدائه، فذلك قد يجعل من حولها يصنّفها بناءً على شكلها، الأمر الذي سيبعدها عن مجموعات لطالما أحبت الانتماء لها، مجموعات قد تتقبل الحجاب، ولكن بعد الزواج والإنجاب. ارتدته أخيراً لكنها وقبل أن تكتمل المباركات خلعته.


أحياناً أتفهّم أسباب بُعد بعض الفتيات عن الحجاب، أو خلع من يرتدينه له، فقد يكنّ لم يصلن إلى القناعة الكاملة به أو للراحة الداخلية التي من المفترض أن يوفّرها لمرتدياته، ولكنني في حالات كثيرة، أجد أن سبب نزع الفتيات لحجابهن أو ابتعادهن عنه يعود لطريقة تفكير كثير من الفتيات والشباب، الذين أصبحوا يربطون الحجاب بالتخلف وعدم التقدم المهني، ويظنّون أن غير المحجبات هنّ الجميلات والمستقلات والناجحات، وهذا سبب ساذج لأن الأمر يتعلّق بالفتاة نفسها وليس بالحجاب.


تجدون التدوينة كذلك على مدونات الجزيرة:

هل نفقد "بريستيجنا" إن تحدثنا بالعربية؟

بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية والذي صادف الثامن عشر من كانون الأول، لم يستحضرني سوى هذا الاقتباس "إن الرجل الذي لا يحب لغته الأم أسوأ من حيوان أو سمكة نتنة"، وهو اقتباس من البطل القومي الفلبيني خوسيه ريزال، الذي حارب الاحتلال الإسباني في بلاده برواية سُجن بسببها ثم أُعدم، ليكون ما حدث معه أحد مسببات الثورة الفلبينية التي انتصرت بطرد المحتل واستقلال الفلبين عام 1898، وللعلم، فقد كان ريزال يجيد التحدث بـ 10 لغات، ومع ذلك بقي يفضل لغته الأم.

لكل من تحسّس رأسه ظناً منه أنني قصدته باقتباسي، فعلى العكس، إنني أرى أنه لا يوجد بيننا كاره للغة العربية، فمؤخراً أصبحنا نطبع حروفها الجميلة على ملابسنا، ونحفر على الخشب وغيره عبارات منتقاة بعناية بخط عربي جذاب لنعلّقها كلوحات نفخر بها على جدران منازلنا، بل امتد الأمر لينتشر بشكل كبير في الحُلِيّ التي نتزيّن بها والهدايا التي نتبادلها، ولكن، لماذا لا أسمعها في أحاديثنا اليومية؟!

لعلّ علاقتنا بلغتنا الأم تشبه علاقة طالب مراهق بأمه، يحبها ولا يطيق فراقها لكنه يخجل من إظهارها لرفاقه أو لأساتذته. لماذا؟ سيتردد بالإجابة حتى لا يجرح مشاعرها، لكنه على الأغلب يراها غير مواكبة لمجتمعه الخارجي. المفارقة أننا مع لغتنا الأم لا نتردد ولا نخجل، بل نقولها بثقة مبنية على باطل "لغتنا جميلة الرسم صعبة النطق.. إنها غير مواكبة ولا تلائم واقعنا الحالي".

منصة عربية لا تنطق بالعربية!
قبل 5 سنوات حضرت في عمّان ملتقى للإعلاميين العرب بهدف الكتابة عنه، بدأ المتحدث العربي كلامه باللغة الإنجليزية لحضور جميعهم من العرب باستثناء 3 أو 4 أشخاص، مضت أول ربع ساعة بهدوء تام وصمت، مع أن المتحدث كان يسأل وينتظر إجابات من الحضور. تعجّب المتحدث والمسؤولون عن الملتقى من سبب هذا الصمت وعدم التفاعل. تجرّأ أحد الحضور وقال "يمكن لو تغيرت اللغة كان تغيرت الهمة!"، وهكذا تشجع كثير من الحضور وطالبوا بالتحدث باللغة العربية، خاصة أن الملتقى عربي والهدف منه إيجاد منصة عربية تعبّر عنا.

كان تبرير المتحدث بأنه يوجد ضيوف لا يتقنون العربية ويهمنا أن يتفاعلوا معنا، مضيفاً بتعجب "ثم من لا يتقن الإنجليزية في زماننا هذا؟!" أخبره أحد الحضور بأنه يتقن الإنجليزية ولغات أخرى لكنه يفخر بعربيته ويحترمها، وافقه آخر وتبرع بأن يقوم بترجمة فورية لغير العرب، ليفتح هذا العرض المغري مجال التساؤل عن سبب عدم تجهيز ترجمة فورية لغير المتحدثين بالعربية. ضاعت نصف ساعة من الوقت والحضور يؤكد على ضرورة التحدث بالعربية وبدفاع المسؤولين عن الملتقى بضرورة التحدث بالإنجليزية ليصل صوتنا لكل العالم!

هل هؤلاء الـ 3 أو 4 أشخاص هم كل العالم ونحن اللا شيء؟! لماذا لا نحترم ذواتنا ونقدّر هويتنا؟ هل حقاً يهدف هذا الملتقى العربي إلى جمعنا وتوحيد كلمتنا؟ إن كان حقاً يهدف لذلك فلماذا لا يعبّر عنا؟ خرجت من الملتقى دون إكماله وكانت هذه الأسئلة تسيطر عليّ. لم أهتم بما اتفقوا عليه بعد خروجي، فقد أيقنت أننا كعرب لن نتفق ما دامت هويتنا مهزوزة.

ملامح عربية بهوية غربية
المؤسف أن ما حدث في هذا المؤتمر يتكرر بشكل شبه يومي أمامي، وهذا مثال لا تزال ذكراه تشعرني بالخيبة: منذ فترة خسرت الكثير من وقتي وجهدي وجزءاً من زملائي في العمل وأنا أحارب من أجل عرض فكرة خاصة بمجال عملنا باللغة العربية، لغتنا العربية القادرة على التعبير عن كل ما في جعبتنا.

أردت عرضها لأشخاص جميعهم يتقنون العربية، بدون استثناء، لكن الزملاء رفضوا ذلك لاعتقادهم أن فكرتنا ستفقد رونقها وجمالها بسبب استخدام اللغة العربية! بعد عناء كبير فشلت محاولاتي بإحياء اللغة العربية مع زملائي العرب، فقد كانوا متوحشين للغاية بدفاعهم عن جمال وانسيابية الإنجليزية مقابل العربية، كما إنهم قالوها بصراحة بدت من وجهة نظري وقاحة، قالوا إن "بريستيجهم" سيبهت إن اعتمدوا العربية كلغة تعبير.


بعد فترة قابلت زميلاً فرنسياً، دخلت معه بنقاش بلغتي الإنجليزية البسيطة حول ازدياد أعداد اللاجئين العرب في الغرب وما قد يتبع هذا الحدث من استخدام واضح ومنتشر للغة العربية، وربما ظهورها في بعض المنشورات واللافتات حتى يتمكن اللاجئون من الاندماج. ليجبني باستنكار وبأسلوب وجدته متعالياً بعض الشيء لكنه مقنع "لا يوجد شخص مضطر لتغيير لغته من أجل زائر أو لاجئ.. هم من طلبوا القدوم لهذه البلاد، بالمقابل عليهم بذل بعض الجهد ليتحدثوا بلغة البلد التي تستضيفهم". تذكرت على الفور القائمين على ذلك الملتقى العربي والذين فكروا بالبعض وتجاهلوا الكل، وبزملائي العرب الذين خجلوا من التعبير بلغتهم، وبغيرهم الكثير.. لأتأكد على الفور أنه لن يعلو شأننا ولن نتوحّد إن بقينا على حالنا هذا.

نعم نحن نحتاج إلى اللغة الإنجليزية وإلى لغات أخرى، لكننا نحتاجها كسند لإكمال الحياة والاندماج في هذا العالم الذي أصبح قرية صغيرة، بالمقابل، نحن نحتاج وبقوة إلى لغتنا العربية كأساس يوحدنا ويمنحنا الرِفعة. أمر جميل أن نسبة كبيرة جداً منّا أصبحت تتقن اللغة الإنجليزية وغيرها من اللغات بطلاقة، فنحن بحاجة لذلك كي نندمج في عالم أصبح قرية صغيرة، ولكن، لماذا لا نستغل طلاقتنا هذه بخطابات ذكية توصل أفكارنا لكل العالم، بدل أن نكتفي بالتظاهر في البلاد الأجنبية بلغة عربية لم يصل منها سوى مشاعر الغضب البعيدة عن التفكّر. أم أن الغضب، الغضب وحده ما يمكننا التعبير عنه بلغتنا الأم؟!


تجدون التدوينة كذلك على مدونات الجزيرة:


Monday 20 November 2017

رحلة الشتات.. قصة المواطن اكس

كانت تبثّه أشواقها عبر شاشة بحجم اليد حين أشاح بعينيه عنها وقال بصوت مسموع ومكسور "الله ينتقم من اليهود.. همّه سبب كل مشاكلنا".

كان هذا قبل عدة أيام، حيث لم يلتئم الجرح بعد، قبل ذلك بحوالي سبعين عاماً، كان والده جالساً على مقعده الصغير، وكان يقترب بملعقته الممتلئة بوجبته الشهية من فمه حين اقتربت منه والدته على عجل لتمسك بيده، اليد ذاتها التي كانت ممسكة بالملعقة، وتهرب به وببعض حاجيات حملتها دون تفكير إلى حيث لا تدري. بعد فترة من الجري تنبّه والده إلى أنه لم يزل ممسكاً بالملعقة، وكانت لا تزال بقايا الطعام الذي لم يتمكن من تناوله عالقة بها، شعر حينها بشيء غريب يختلج في صدره، حين كبر، عرف أنه شعور الغصة، ذاك الشعور الذي بقي ملازمه حتى يومنا هذا.
 
إلى يومنا هذا، كان لا يزال يذكر حكايات والده الذي وُلد قبل النكبة بستة أعوام، والذي ورغم صغر سنه، إلا أنه بقي محتفظاً بذكرياته الجميلة عن قريته في فلسطين وبذكرياته الأليمة عن النكبة وما خلّفته من شتات. كان كذلك يحتفظ بحكايات جده التي ورثها من والده، جده الذي وُلد قبل مئة عام في المنزل نفسه الذي لم يتمكن والده فيه من إكمال وجبة طعامه ولا من إكمال شريط ذكرياته على نحو يستمتع به من يسمعه.

اقتلاع شعب وزراعة آخر
هذه حكاية من بين ملايين الحكايات التي تمثّل معاناة الشعب الفلسطيني، حكاية تمثّل جزءاً صغيراً جداً مما تعرّض له هذا الشعب من جور وظلم وحالات فراق بين الأهل والأحبة، وما خفي كان أشد عنفاً وظلماً وقهراً.

هذه حكاية بدأت مع معاهدة سايكس بيكو عام 1916، والتي تم توقيعها بين فرنسا وبريطانيا لتقسيم الأراضي العربية الواقعة شرقي المتوسط، بل من قبل، حيث انعقد المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897 في مدينة بازل السويسرية بهدف إقامة وطن للشعب اليهودي في فلسطين تحت حماية القانون العام، مروراً بوعد بلفور المشؤوم عام 1917 حيث أيّدت فيه الحكومة البريطانية قرار إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين وأبدت كامل مساعدتها ليتم ذلك، وبالفعل، تكاتفت قوى العالم حينها، ليحدث ما حدث، ورغم رفض السواد الأعظم من اليهود لهذا القرار، إلا أنهم وبسبب الممارسات النازية ضدهم في أوروبا، اضطروا مرغمين إلى الهجرة لفلسطين. واستمرت الهجرات اليهودية والمعارك في فلسطين حتى تحولت عام 1948 إلى نكبة، حيث تم تهجير أكثر من 750.000 فلسطيني من ديارهم وأراضيهم في فلسطين ليخسروا خلال عمليات التهجير، الكثير من الأهل والممتلكات ويبدأوا حياتهم من الصفر ولكن مع لقب لاجئ.

وفي عام 1967 نكّس العرب رؤوسهم بخسارة فادحة أمام العدو المحتل الذي انتشر كالسرطان في أراضٍ عربية محيطة بفلسطين. لم يستطع العرب بعد ذلك رفع رؤوسهم، فقد بدأ حكامهم بمعاهدات تدعو لتطبيع الحياة بين العرب والعدو المحتل، بدأتها مصر بمعاهدة كامب ديفيد عام 1979، والتي كانت أول خرق للموقف العربي الذي يرفض التعامل مع العدو المحتل، تلتها معاهدة أوسلو بين العدو المحتل ومنظمة التحرير الفلسطينية عام 1993 ومن ثم معاهدة وادي عربة في الأردن عام 1994.

رغم خنوع الحكومات، الظاهر والباطن، إلا أن الشعوب، وحتى يومنا هذا، لم ترفع راية السلام، ولن ترفعها، فالحكاية لم تنتهِ بعد، والماضي لا يزال حاضراً في قلوب وعقول الجيل الثالث والرابع من أبناء النكبة، سواء من فلسطين أو من العالم العربي.
 

ماذا يعني أن تولد فلسطينياً في بلد عربي؟
يعني أن تحمل فلسطين على عنقك، وأن تضمّها في منزلك، وأن تحفظها في عروقك.. يعني أن تعيش في وطن وأن يعيش في داخلك وطن آخر.. يعني أن تكون هويتك مشتركة ومنفتحة ثقافياً وأن تكون نسيجاً مميّزاً، تتداخل فيه الكثير من الملامح، ومع ذلك، سيُفرض عليك الرفض، وسيتم تجاهلك، ولن يتم الاعتراف بك ولا بحبك للبلد الذي تعيش فيه، البلد الذي وُلدت على أرضه، وظننت أنك تنتمي إليه، ستكتشف فيما بعد، أنك تنتمي إلى المظلومين وأن القهر هويتك، وأنك معاقب على شيء لم تفعله، ستشعر أنك بشر فائض عن الحاجة وستنصدم بحقيقة أن بلاد العرب ليست أوطانك، وستُبحر باحثاً عن حقك في الحياة. 

أنا من فلسطين.. تقصد من (إسرائيل)؟
ستصل أخيراً إلى قرار الهجرة من بلاد العرب، فأنت مضطهد من كل الأنظمة العربية، ستشعر حينها بهول ذكريات اللجوء التي سمعت عنها ولم تعشها، فها أنت لاجئ للمرة الثانية، ها أنت تترك مخيمك، وطنك، وتخرج بمفتاحين، مفتاح منزلك في فلسطين ومنزلك في المخيم.



ستشعر بقسط من الحياة، ستأخذ جزءاً من الحقوق، وستكون الفرصة أمامك لنيل المزيد، لكنك ستواجه الإنكار، ستصادف أحدهم وسيسألك "من أين أنت؟"، ستجيب بفخر "أنا من فلسطين"، سيتفاجأ السائل وسيسألك "ماذا تقصد؟"، ستتفاجأ من تفاجئ السائل ومن جهله! سيغلي الدم في عروقك، وستخبره عن فلسطين أكثر، لكنه لم يتجاوب معك، ستُريه أخيراً صورة القدس، ليقول: "آآآه! تقصد (إسرائيل)"!

هنا ستتغير معركتك، فبعد أن كنت في البلاد العربية تبحث عن فسحة حياة، حيث كان معترفاً بفلسطينيتك وغير معترف بك، ستصبح معركتك الآن معركة تاريخية، حيث معترف بك وغير معترف بماضيك، وستستمر المقاومة، سواء هناك أو هنا، لأنك تستحق الحياة ولأن اسمها فلسطين وسيبقى فلسطين.




تجدون التدوينة كذلك على مدونات الجزيرة:


Thursday 17 August 2017

من "الإسرائيلي" الذي يمكننا محاسبته؟

الصفعة كانت كبيرة ومدوية، لم يتردد مرتكبها من الإتيان بها ولم يشعر بالخجل من التعدي على حرمة بلد يستضيفه، أو بالخوف من ردة فعل حكومته التي قد تتأثر علاقتها مع هذا البلد الذي يفتح لها أبواب السلام على مصراعيها وعلى الرحب والسعة، في الوقت الذي يغلقها أمام فلسطينيين شتّتهم ولا يزال يشتّت بهم العدو.
وكيف له أن يتردد وهو من تعلّم في مدارسه أن قتل العرب، وإن كانوا أبرياء، يُعتبر بطولة؟! وكيف له أن يشعر بالخجل وهو الذي يعرف حق المعرفة أن هذا البلد الذي يستضيفه سيفضّ أي مظاهرة ضده إن اقتربت من حدود سفارته؟! وهذا ما حدث ويحدث بالفعل. أما الخوف، فمن يخاف من حكوماته غيرنا نحن العرب؟! ثم أخبروني بحق، كيف له أن يخاف وهو من يسنده كبير القتلة "نتن ياهو"، الذي استقبله بحفاوة، بعد أن ساعدت الحكومة الأردنية بتهريبه عُقب ساعات من الجريمة، وأخبره بأنه تصرّف بشكل جيد وأنه فخور به؟
تعاملت الحكومة الأردنية مع جريمة "حارس السفارة" النكراء برحمة قلّما نجدها إن كان المجرم واحداً منا، وبلطف نفتقده إن كانت جريمة السفارة هذه هي جريمة سفارة عربية شقيقة، حدث ذلك تحت ذريعة أنه دبلوماسي يمتلك حصانة سياسية وقانونية. ولكن، ورغم الفتوى الدبلوماسية، ألم يكن بإمكان حكومتنا أن تحتجز المجرم لفترة أطول؛ لإطالة معاناته بالانتظار ولزيادة حرج دولته المزعومة وحثّها على التفكير بالعواقب التي قد تحدث؟ ألم يكن بإمكان حكومتنا أن تستغل مثل هذه الجريمة وأن تقوم بتجيير الخطيئة الإسرائيلية لمصلحة الأردن والقضية الفلسطينية؟
 
وهنا، يجب التنويه إلى أن هذه الصفعة المدوية لم تُقابل، كما يظن البعض، بصفقة تتعلّق بإزالة البوابات الإلكترونية من محيط المسجد الأقصى، بل إن ما حدث، لم يحدث إلا بفضل المرابطين والمرابطات على أبواب الأقصى. فلا تسرقوا جهودهم!
إن تفكّرنا بأحداث جريمة "حارس السفارة"، التي اختلفت الروايات بشأنها، ولكن الرواية التي تم اعتمادها، حتى من حكومتنا الرشيدة، هي رواية المجرم نفسه "حارس السفارة"، الذي ادّعى أنه قتل الشاب الأردني (الطفل في الأعراف الدولية) محمد زكريا الجواودة، والذي لم يبلغ الـ 17 عاماً، بعد أن تعدّى عليه وحاول طعنه بمفك يحمله بيده على إثر خلاف بينهما، حيث وصل الجواودة لمكان الجريمة (محيط سفارة العدو) بهدف تركيب أثاث في شقة المجرم، وكان برفقتهما الطبيب الأردني بشار الحمارنة، الذي يقوم (للأسف وبكل غرابة) بتأجير عمارته للعدو منذ زمن، والذي قُتل كذلك على يد المجرم نفسه، ولكن وبحسب المجرم، فإنه قتله عن طريق الخطأ.
هل قتله عن طريق الخطأ أم ليدفن الشاهد الوحيد على جريمته ومن ثم ليتمكن من نسج الرواية التي تناسبه؟ وإن صحّت روايته، فهل ما فعله يُعتبر دفاعاً عن النفس أم قتل مع سبق الإصرار؟! ألم يكن بإمكانه ردع هذا الطفل بأقل الطرق إيذاءً أم أنه استغل الموقف ليشفي غليله من الدم العربي؟!
أسئلة كثيرة ومؤرقة تؤدي بنا إلى سؤال جديد: "في يومنا هذا، من هو "الإسرائيلي" الذي يمكننا محاسبته"؟
قبل 20 عام، تحديداً بتاريخ 25/9/1997، أقدم الموساد الإسرائيلي على اغتيال خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الفلسطينية حماس، والتي، وأقولها آسفة، أصبحت تصنّف اليوم إرهابية بنظر أشقاء عرب.
تمّت محاولة الاغتيال على أرض عربية، في الأردن تحديداً، ولكنها كانت بتخفٍ وبصمت، فقد كان العدو يعرف خطورة ما يقوم به فيما لو كُشف، كان يعرف أن اتفاقية السلام التي تجمعه مع الأردن تمنعه من الاستخفاف بهيبة المواطن الأردني وبحياته، ومع ذلك، لم يتمكن من مقاومة نهمه في امتصاص الدم العربي.
لم تكتمل محاولة الاغتيال، لكنها وفي بدايتها، هدّدت حياة مشعل، ما جعل الملك السابق حسين يعتبر ما جرى ضربة غادرة واستهدافاً للسيادة الأردنية وانتهاكاً لمعاهدة السلام، ليقولها بصراحة ووضوح: "إذا مات مشعل فإن اتفاقية السلام ستموت معه". كم نحن بحاجة لمثل هذه التصريحات في أيامنا هذه!
رغم اختلاف الضحية في الجريمتين، ففي جريمة الأمس هي أحد رؤوس المقاومة والتي كنا ولا نزال نفخر بها رغماً عمّن يريد تشويهها في حاضرنا، وفي جريمة اليوم، الضحية تنقسم لشخصين، الأول مطبّع نأسف لانتمائه لنا (الطبيب)، والثاني طفل لا نستطيع الحكم عليه بشكل مباشر. ومع ذلك، كان على الحكومة متابعة القضية بشكل يحترم سيادتها أكثر، فلو وضعنا الآراء السياسية على جنب، سنجد أنه يوجد جريمة قد ارتكبت.
 
السلام لا يعني الاستسلام، هذا ما حاول إيصاله الملك السابق حسين، فاستغل محاولة الاغتيال لصالح الأردن، وهزّ الكيان الإسرائيلي بصفقة ترضي المجتمع الأردني، حيث طالب بجلب الترياق الذي سيشفي مشعل، وبإخراج الشيخ أحمد ياسين، مؤسس حركة حماس من السجون الإسرائيلية، وبإخراج 50 أسيراً آخرين. وبالفعل تم كل ذلك. لتتحول هذه الصفعة الإسرائيلية الصامتة إلى خبر مدوٍ يهزّ الداخل "الإسرائيلي" ويهزم خطته الخجولة.
 
بالنسبة للدوافع التي حرّكت الملك السابق حسين في ذلك الوقت، فقد تكون جاءت كرد فعل سريع على ما قامت به "إسرائيل" حين قتل أردني 7 إسرائيليات في نفس تلك الفترة، أو لامتصاص الغضب العربي الذي قد لا تُحمد عواقبه أو لغير ذلك. بغض النظر عن الأسباب، فقد نجح الملك بزعزعة ثقة العدو وبإنقاذ حياة مشعل وبتحرير مجموعة من الأسرى وعلى رأسهم الشيخ أحمد ياسين، وهذا كان كافياً ليبثّ الفرح في أوساط الأمة العربية وليرضي شعبه وينسيه معاهدة السلام مع العدو ولو لحين.

أما اليوم، فلم يعد بالإمكان محاسبة الأعداء حتى وإن كانوا مجرد حارس طائش نستضيفه في بلادنا!


تجدون التدوينة كذلك على مدونات الجزيرة:

Sunday 2 July 2017

فوازير رمضان وسائق التاكسي

مضت أعوام وجهاز التلفاز في منزلنا لا يُفتح إلا في المناسبات؛ إعلان هام يستدعي فتح القناة الرسمية لمعرفته، انفجار هنا أو هناك يشدّنا لمتابعة أكثر من قناة عربية وعالمية وكلّنا أمل بألا يشوّه هذا الحدث إسلامنا البريء منه، صلاة الجمعة مباشرة من الحرم المكي، وفي الفترة الأخيرة أصبحنا نفتحه لنستغل ذكاءه وننقل ما نشاهده عبر أجهزتنا الخلوية من شاشة بحجم اليد إلى شاشة بحجم الحائط.


لولا الميزة الأخيرة لاعتبرته جزءاً من إكسسوارات المنزل، تلك الإكسسوارات التي لطالما أرهقتنا بمسح غبارها، كنت كثيراً ما أحمد الله بأن أصبحت التلفزيونات الحديثة رفيعة بشكل لا يسمح لها بالتقاط الكثير من الغبار، وإلا لكانت كثيرة الغلبة، قليلة الفائدة.


على أحد أرصفة عمّان كنت واقفة أنتظر سيارة تكسي وأفكر بالسبب الذي جعل أهمية التلفاز تتراجع إلى هذا الحد، قد تكون ثورة الإنترنت، وبالأخص مواقع التواصل الاجتماعي السبب الأهم في ذلك، فقد أتاحت للمتلقي فرصة التفاعل اللحظي مع كل ما يشاهده أو يقرأه، كما أنها منحته القدرة على المشاركة بالكثير من الأحداث الهامة وبإبداء رأيه بها بمنتهى السرعة والسهولة، وهذا أمر لم يكن موجوداً في زمن سابق، ومع ذلك، ليس هذا السبب بابتعادي أنا بالتحديد عن التلفاز.

وأخيراً توقفت سيارة تكسي فهممت بركوبها ثم أخرجت هاتفي الخلوي بعد إرشاد السائق إلى وجهتي، اخترت الفيسبوك لأقضي وقتي معه خلال طريقي، فبدأت بقراءة منشورات الأصدقاء إلى أن توقفت عند أحدها "أي مسلسل سوري بتلاقوه برمضان خبروني". أعادني هذا المنشور إلى تلك الأيام، أيام الطفولة ومن بعدها المراهقة ثم بدايات الشباب، كانت المسلسلات السورية رفيقتي في كل تلك المسيرة، كانت صديقتي التي لطالما فهمتني وعبّرت عني.


نعم، لقد عرفت سبب ابتعادي عن التلفاز، كيف لي أن أفتحه وقد خسر تلك الدراما الأقرب إلى قلبي ومجتمعي، صحيح أنني حاولت بعد عام 2011 مشاهدة بعض المسلسلات السورية، لكنني فشلت بمنحها فرصة المتابعة، فمع كل مشهد كنت أشعر بغصّة من ممثل كشف أوراق زيفه أو بخيبة من سيناريو يلمّع صورة المجرم أو باستهجان من حكايات تشوّه إسلامناومنذ ذاك العام والإحباط في داخلي يكبر كلما تذكرت أن الدراما السورية التي كنا ننتظرها من رمضان إلى رمضان والتي تنبّأنا لها بمستقبل باهر، ماتت قبل أن تُزهر بلحظات.


أخرجني سائق التكسي من إحباطي ليدخلني في دوامة إحباط جديدة. فوازير سائق تكسي..


- عمي، بدي أسألك مجموعة أسئلة وإذا بتجاوبي عليها كلها ومن غير ولا غلطة رح تكون أجرة الطريق عليّ. موافقة؟
تبادرت إلى ذهني أسئلة المسابقات التجارية التي اعتدنا عليها مؤخراً والتي بإمكان طفل صغير الإجابة عليها، فوافقت على الفور وكلّي ثقة من الفوز.
- شو أعلى مرتبة في الجنة؟

كنت على وشك الإجابة لكنني ترددت، أذكر أن الفردوس هو أعلى المراتب لكنني لست واثقة من صحة معلومتي، فهي مبنية على ذاكرة بعيدة لم تتم مراجعتها مع زحمة الحياة.

- الفردوس.. طيب، بتصلّي عالنبي؟
- عليه الصلاة والسلام.. طبعاً.
- طيب شو معنى صلاتنا عالنبي؟
- ممكن ذكر للنبي..


- قال تعالى: "إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا"، صلاة ربنا على النبي ثناء وعطاء وصلاة الملائكة دعاء، طيب وإحنا؟ كمان دعاء بس هل النبي محتاج لدعائنا؟ إحنا بصلاتنا بنطلب من ربنا يثني على النبي -عليه الصلاة والسلام-، فشوفي الفائدة اللي بترجعلنا بعد الصلاة عالنبي، كل ما صلّينا عالنبي ربنا بيحكي بما معناه "عبدي فلان صلى على حبيبنا محمد، فصلوا عليه عشراً، وأعطوه عشر حسنات، وارفعوا عنه عشر سيئات".. يعني شوفي شو بتنالي بمجرد الصلاة عالنبي؟ بتنالي كل الأجر والثواب.. يعني إنتي ولا النبي اللي محتاجة للصلاة هاي؟
- أنا.

وكلما سأل أكثر كلما أيقنت أنني أهملت ثقافتي الدينية واكتفيت بالمعلومات السريعة التي كنت أمرّ بها خلال سمعي أو دراستي أو قراءاتي العشوائية. سألته عن كيفية معرفته بكل هذه المعلومات لأشعر بسذاجة سؤالي من إجابته التي جاءت سريعة وبديهية:

- هاي سنة الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم-.. وكل شي قلتلك عليه مذكور ومفصّل بالكتب. شوفي يا بنتي كم واحد بيصلي عالنبي يومياً، تمنّيت واحد من الركاب يجاوبني جواب صحيح عن سبب هاي الصلاة.. بتعرفي مين اللي حقق أمنيتي؟ شاب أمريكي دخل الإسلام وتعلّم عربي وجاي على بلادنا يتعلّم الفقه!


لم أعجب من ذلك الشاب الأمريكي، فهو اختار الإسلام ديناً له، وعلى هذا الأساس غاص في أعماقه والتفت إلى كافة جوانبه، أما نحن، فقد ورثناه من آبائنا دون فهم له، وهذا سبب جهلناوصلت إلى وجهتي، دفعت له أجرة الطريق التي خسرتها بسبب جهلي، ثم ترجّلت من السيارة وأنا أفكر بخسارة أكبر.


يا لهذا العار! كيف سرقتنا الدنيا وأبعدتنا عن ديننا؟ كيف قضيت أول نهار لي في رمضان بالتفكير بجهاز التلفاز وأسباب ابتعادي عنه وبالتحسّر على المسلسلات السورية؟ كيف لم أفكر بأسباب ابتعادي عن ربي ولم أتحسّر على أمتي وعلى هزائمها المتتالية؟!



شكراً يا سائق التكسي، فرغم إحباطك لي، إلا أنك نبّهتني على أن الأوان لم يفتني بعد، فها نحن في رمضان، شهر العودة إلى الذات لتغيير الأفكار وتجديد الإيمان.



*تجدون التدوينة كذلك على مدونات الجزيرة:

Friday 9 June 2017

ريال أو برسا.. "شعب واحد مو شعبين"

تصفيق حار! لقد بدأ الموسم، وارتفعت معه الهتافات وابتعد الشباب عن الفتيات، فالحبيبة الأولى عادت، الحبيبة المستديرة بكامل سحرها وألقها، خاطفة القلوب والعقول، التي يتبعها ويتابعها الجميع دون أن تقابلهم بالمثل.. فهل عرفتموها؟
 
إنها كرة القدم، تلك اللعبة التي لطالما آلمت طفولتي، سواء بصفعات على وجهي أو بحرماني من مشاهدة كرتوني المفضل. للأمانة، وحتى لا أكون ممّن يكتب فيما يجهل، فأنا لا أعرف عنها سوى اسمها، ألمها وبعض من صادفتهم في طريقي من محبّيها.
 
قبل حوالي شهرين عرف من حولي بخطة سفري إلى إسبانيا، لتبدأ التوصيات، ويا لها من توصيات! في البداية لم أكن أعرها اهتماماً، كنت أكتفي بالابتسام والاستماع، لكن الموضوع زاد عن حده فاستفزني لفهمه، فبعد وصولي إلى مدريد وإعلان ذلك على الفيسبوك، أصبحت تصلني رسائل وتعليقات مثل: (سانتياغو برنابيو.. تنسيش!)، (هلا مدريد)، (سلميلي على كريستيانو)، (تصوري مع رونالدو).

قرّرت البحث والقراءة لفهم مشاعر العشق والهيام التي تسيطر على شباب العرب والتي حوّلت إسبانيا في مخيّلاتهم إلى كرة قدم كبيرة! علمت أن "سانتياغو برنابيو" ليس شخصاً وإنما ملعب له تاريخ عريق، ثم صحّحت معلومتي باكتشافي أنه رئيس النادي الأسطوري في زمن قديم وأحد مؤسسي الملعب، وأن الملعب سمّي على اسمه تكريماً له، أما دهشتي، فكانت حين اكتشفت أن "كريستيانو" هو نفسه "رونالدو"، وأن كلمة "هلا" في شعار "هلا مدريد" ليست مأخوذة من كلمة "هلا" العربية بل من كلمة إسبانية يقصد بها دبّ الحماس ورفع المعنويات.
 
في مدريد قابلت قريبة لي تعمل في فندق، ومن حديث إلى حديث علمت منها أن جميع العرب الذين تتم استضافتهم في الفندق يأتون لسببين على أساسهما يقطعون تذكرتين بلا أي تفكير، الأولى لملعب "سانتياغو برنابيو" في مدريد والثانية لملعب "كامب نو" في برشلونة، فسألتها بدهشة "والأندلس، أليست ضمن خطتهم؟!" لتجيبني بالنفي.
 
بالنسبة لي، إسبانيا تعني الأندلس، أو على الأقل مرتبطة في أعماقي بحقبة ذهبية عاشها العرب، لذلك كنت أحلم بزيارتها لعلّي أفهمها أكثر وأشعر بجزء من تاريخنا، لكن مواعيدي كانت مزدحمة فصعبت عليّ للأسف زيارة أي مدينة فيها سوى طليطلة، الأقرب إلى مدريد.
 
في مدريد، ورغم إمكانية زيارة ملعب "سانتياغو برنابيو" إلا أنني لم أرغب بذلك، لكنني حين وصلت إلى برشلونة، لا أعرف لماذا قرّرت زيارة ملعب "كامب نو"، كانت رغبتي شديدة ولا مبرّر لها، أو ربما كانت رد فعل طبيعي لعدم تمكني من زيارة الأندلس، فقد قلت في نفسي "إن لم أتمكن من معرفة تاريخ العرب عن قرب، لأقترب إذاً من حاضرهم".
 
في "كامب نو"، بدأت الزيارة من متحف يضمّ صوراً، كؤوساً، تذكارات وإنجازات مسجّلة للفريق البرشلوني، كان المتحف مليئاً بالزوّار الذين أتوا من مختلف الأرجاء، للحظات شعرت برهبة غريبة وكأنني في معبد وعليّ أداء بعض الصلوات! نعم لقد كانت تجربة مهيبة لي رغم جهلي بهذا العالم، فكيف ستكون لعشاقه؟! أعتقد أنه كان للموسيقى والإضاءة وبعض الزوّار دوراً كبيراً بمنحي هذا الشعور. زيارتي للملعب أخذت ساعات طويلة وممتعة، على عكس ما كنت أظن، فقد أمضيتها باستكشاف هذا العالم الغريب ومراقبة جمهوره بهدف دراسة مشاعره.

استنتجت أن كرة القدم رياضة مرتبطة بالمشاعر، تعلو فيها روح المنافسة، الأمر الذي يستفز مشاعرنا لمتابعتها، فهذا أمر بغريزتنا نحن البشر، قد يكون متفاوتاً لكنه ليس معدوماً، كما أن الجميع في هذه الرياضة قادر على المشاركة، سواء باللعب، التشجيع أو التعليق، ومن منا لا يرغب بأن يكون جزءاً من أي شيء في هذه الحياة؟ أما الاستنتاج الأهم، والمرتبط بنا نحن العرب، نحن من لم نعتد التعبير عن مشاعرنا بصراحة وعلانية، من اعتدنا كبت الحب والخجل من البوح به، لكننا، حين يتعلق الأمر بكرة القدم، فإننا ننطلق بلا خجل ونرفع أصواتنا لنُسمع الجميع ونخبرهم عن حبّنا لهذا الفريق أو ذاك، وكأن كرة القدم هي الشيء الوحيد الذي يمنحنا فرصة التعبير عن مشاعرنا، وكم نحن محتاجون لفرصة كهذه.
 
إذاً، فقد قمت بزيارة ملعب "كامب نو" وأشرت إلى ذلك على الفيسبوك بحركة بريئة مني، لكنها بدت مشاكسة لأصدقائي، فقد اكتشفت أن أغلبهم يشجّع فريق ريال مدريد، وأن ما قمت به يعتبر خيانة عظمى، فقد كنت في مدريد ولم أنفّذ وصاياهم، بل على العكس، أحبطت توقعاتهم وقمت بزيارة ملعب الفريق الآخر، أو العدو كما يحلو لهم القول!
العدو، هل من الممكن أن تفرّقنا لعبة كهذه؟ سؤال قد تكون إجابته نعم إذا تمعّنا بتعليقات الجمهور، لكنني غيّرت سؤالي هذا مع حفاظي على الفكرة منه وتوجهت به إلى صديقتي الكتالونية، فسألتها "هل تعتقدين أن مطالبتكم بالانفصال عن الدولة الإسبانية قد تؤدي إلى حرب أهلية؟" لتجيبني "لا أعتقد أن الأمر سيصل إلى حد القتل كما يحدث لديكم على أمور أبسط من ذلك، هي مجرد اختلافات سيتم حلّها بالنقاشات ولو طال الحال".

*تجدون التدوينة كذلك على مدونات الجزيرة:

ماذا أهديكم في أحلى الأوقات؟

تمضي مناسبات وتأتي مناسبات، وتبقى الهدايا بطلة كل تلك اللحظات؛ لوحات تحاكي الطبيعة لمنزل جديد، دمية شقراء لطفلة في عيد ميلادها، سيارة بجهاز تحكّم عن بعد لطالب تخرّج من المرحلة الابتدائية، أموال قد تذهب هباءً لطالب تخرّج الآن من الجامعة، زهور ستذبل بعد أيام لحبيب نجا بأعجوبة من الموت، خاتم من الذهب تشارك في ثمنه عدد من الأصدقاء لفتاة في ثوبها الأبيض..
 
ولكن، ألم تصبح هدايانا روتينية حدّ الملل؟ أليست مكلفة في كثير من الأحيان؟ سؤال وجّهه لي صديق، فاستفز مشاعري وأعادني بالذاكرة إلى مناسبات الأهل والأصدقاء وما حملته من هدايا اجتهدت وتكلّفت بها، سألت نفسي "هل حقاً كانت كل هداياي تلك مملة واعتيادية؟ هل ملأها الغبار بعد أن ركنها أصحابها إلى رفوف مكتباتهم؟".

رفوف المكتبات
وكأن ذلك الصديق سمعني، فعلّق بصوت مرتفع "بأفضل الأحوال ستُحفظ هداياكِ تلك في صناديق كرتونية وستُخزّن تحت الأسرّة، وإن كنتِ محظوظة، ستمتلئ بها رفوف مكتباتهم الخاوية، هذا إن وُجدت، وإن وُجدت فإنها فكرة جميلة لتغيّري نمط هداياكِ، وإن لم توجد، فهذه فكرة أجمل لتصنعي لهم عادة جديدة".
 

نواة مكتبة
"منذ هذه اللحظة لن أهدي إلا كتاباً".. كان هذا قرار الصديق الذي سيبدأ به عامه الجديد، العادة التي سينتهجها، قال لي "تخيّلي لو أصبحنا مجتمع معظم هداياه كتب! كيف سيكون حالنا؟ بالتأكيد سنصبح أفضل بكثير"، لم أكن أريد إحباطه، لكنني فكّرت بواقعية فقلت له "قليلون من سيقرؤون كتبك، وكثيرون من سيركنونها كما ركنوا هداياي إلى رفوف مكتباتهم".. لم يُطل التفكير، علّق على الفور "لا بأس في ذلك، يسعدني أن أصنع في كل منزل أعرفه نواة مكتبة.. سأرسّخ لدى عائلتي وأصدقائي مفهوم القراءة، سأستفزهم بكثرة الكتب من حولهم، بالتأكيد ستجذب أحداً إليها".
 

أقنعني، اتفقت وإياه على انتهاج هذه العادة منذ بداية العام الجديد، هذه العادة التي ستُفضي إلى سعادة مطلقة في حال تعمّمت وأصبحت نهجاً لمجتمع بأكمله، سنعود "أمة اقرأ"، سنصبح أمة مليئة بشتى ألوان المعرفة.
 

سائق التكسي ومكتبته المتنقلة
هل سبق أن زيّنت سيارتك بباقة من الكتب؟ لم أرَ أحدهم يفعلها من قبل، إلا سائق تكسي فاجأتني سيارته بجمالها واختلافها! أشبعتني برائحة الورق الجميلة! على زجاجها الأمامي تنعكس عناوين الكتب الجذابة ومن الخلف تجد رفاً يحمل كماً هائلاً من العلم، أثارت هذه المكتبة المتنقلة الفضول في داخلي، سألت سائق التكسي السبعيني بعدم تصديق "هل قرأت كل هذه الكتب؟" ليجيبني على الفور وبكل ثقة وفخر "بالتأكيد.. إنني أقضي وقت فراغي وانتظاري بقراءتها".

قال لي إنه لم يتمكن من إكمال دراسته الجامعية، لكنه أكّد أنه يمتلك علماً يشمل معظم التخصصات الجامعية في الأردن، فهو يطلب من كل طالب علم يرافقه الطريق أن يهديه كتاباً من تخصصه. قراءاته المكثفة والانتقائية لم تزده علماً وحكمة فحسب، بل مكّنته من الانتصار في قضية رُفعت عليه في المحكمة، حينها لم يلجأ لمحامٍ ينوب ويدافع عنه، بل لكتاب في القانون يمدّه بكافة المعلومات التي سترشده وتوجّهه أمام القضاء.
 

في نهاية طريقي معه، طلب منّي أن أهديه كتاباً أملكه، شعرت بالسعادة، فها أنا سأبدأ بتطبيق عادة إهداء الكتب قبل الوقت المتفق عليه، تركته ينتظرني أمام منزلي وذهبت مسرعة إلى غرفتي، نفضت الغبار عن كتابين اجتهدت باختيارهما وأهديتهما له، رأيت السعادة واضحاً على محياه ولمستها تكبر في قلبي.
 

وصفة لمتابعة الحياة
طال انتظار سائق التكسي وأنا أبحث له عن كتاب يليق به، كنت أبحث بعناية شديدة، بناءً على عمره، وعناوين كتبه التي قرأتها في سيارته، كنت أستذكر الأحاديث السريعة التي سمعتها منه خلال الطريق وأفكر فيما قد يضيف له، حتى وجدت مراده. كان لا بد من هذا الجهد، من دراسة حالة الشخص والبحث عن كتاب يلائم فِكره ويناسب حياته.
 
قبل أيام، نبّهتني صديقة إلى فكرة عظيمة، لو وُجدت لحلّت كثيراً من مشاكلنا، قالت لي "ماذا لو كان هنالك مكان كالصيدلية، يسمع احتياجاتنا، يشعر بألمنا، يلتفت لما ينقصنا، فيبحث عن كتاب ويصفه لنا ليكون العون والسند". فقلت لها "ماذا لو أصبحنا نحن تلك الصيدليات؟ ماذا لو طبّقنا فكرة تهادي الكتب في كل المناسبات القادمة؟ حينها سنكون البلسم الذي سيشفي أرواح وعقول من نحب".

*تجدون التدوينة كذلك على مدونات الجزيرة: