Showing posts with label الجزيرة. Show all posts
Showing posts with label الجزيرة. Show all posts

Friday 9 June 2017

من أمثال صالح ومروة تأتي الهزائم

أكثر من 10 أعوام مضت ولا تزال ذكرى معلمة الرياضيات من أجمل الذكريات التي أحتفظ بها في وجداني وأسترجعها كلما واجهتني عقبة، فهي من حرّك خيالي وزرع بداخلي التحدي والإصرار.

كنت في المرحلة الإعدادية حين جمعني القدر بها، لم تكن مختلفة عن المعلمات اللاتي سبقنها، ولا حتى عمّن لحقنها، لم تكن لطيفة إلى حد يأسر من حولها ولم تتميّز بقدرتها على تبسيط المادة، لم تعاملني معاملة خاصة ولم تأتنا بأسلوب تدريس جديد، على العكس، كانت رتيبة الشرح، قاسية الامتحانات وشحيحة العلامات، لكنني أحببتها.. وهذا كل ما في الأمر!

لا أذكر كيف تسلّل حبها إلى قلبي ولا المعطيات التي أدّت إلى تكوينه، لكنني أذكر نتيجته جيداً، لقد حصلت في العام الذي التقت فيه روحَينا على علامة كاملة في مادة الرياضيات، كانت تلك أول وآخر مرة أحقق فيها نجاحاً أفخر به في مادة بكيت فيما بعد من صعوبة شِفراتها.
 إنه الحب، ولا شيء سوى الحب قادر على تغيير الأفكار وتبديل الأحوال، وبمقدار الحب يدوم الحال الجديد وينتصر أو يهزمه التلاشي.


حلب.. نداء عاجل

مع انخفاض درجات الحرارة ارتفعت وتيرة الأحداث في الأحياء الشرقية لمدينة حلب السورية، حيث شهدت أسبوعاً دامياً ملأ شوارع المدينة بحكايات منسوجة بالصمود، وجرّد مدن العالم من إنسانيتها إن لم تهتف باسم حلب.

كثيرون هم الذين فقدوا جزءاً من إنسانيتهم، وكثيرون هم الذين هتفوا.. امتلأت مواقع التواصل الاجتماعي بنداءاتهم، واكتظت الشوارع بهم.. يوم، يومان، ثلاثة، أربعة، خمسة.. ثم ماذا؟ كلٌ عاد إلى حياته.

قبل تلك الأيام وقع الحصار وارتُكبت المجازر، وفي تلك الأيام اشتد الخناق فالتفت العالم لنداءات المدينة المنكوبة وتم الاتفاق على إخلائها من أهلها لضمان سلامتهم، ليسود بعد ذلك الصمت، رغم بدء الحدث الأقسى، حدث التهجير، بكل ما يحمله من إحباط.

الآن وبعد أسبوعين من فورة الغضب وتهجير حوالي 25 ألف شخص من منازلهم، هدأ الجميع، غابت حلب من شريط الأخبار العاجلة، وتبخّرت من مواقع التواصل الاجتماعية، كما اندثر ذكرها من الشوارع المتضامنة، على الرغم من أن أنقاضها حتى هذه اللحظة تدفن عائلات ماتت دون أن تحقق أحلامها، وعلى الرغم من أن بعضاً من أهلها المهجّرين ماتوا ويموتون من شدة القهر والبرد.

راجعين يا هوى
امتلأت عينيّ في ذلك الأسبوع الدامي بزخم من المشاهد القاسية والدامية التي تدمع لها العين ويعتصر لها القلب ألماً، فقدت ساعات من نومي وأنا أفكر بسبب ما وصلنا له، أصبحت حلب بطلة نقاشاتي مع الأصدقاء، وكان يصيبني الهم والحزن كلما وجدت مصفقاً ومبرراً للمجازر القائمة، اقتسمت لأهلي في حلب نصيباً من دعائي وشاركت من حولي أخبارهم، لعلّ وعسى.. لكنني ومع مرور الأيام وكعادة الإنسان التي جُبل عليها، عدت لحياتي الاعتيادية.

كل تلك المشاهد الحزينة التي شغلتني لبرهة من الزمن، غابت الآن، لست أنا الوحيدة، ها هي تغيب كذلك من منشورات أصدقائي على الفيسبوك وتُستبدل بمشاهد مليئة بألوان الحياة، ربما هكذا نحن البشر، بطبعنا نشتاق إلى الفرح ونركض خلفه.

غابت كل تلك الأحداث إلا صورة وحيدة بقيت تداعب ذاكرتي وتُسعد بصري كلما عدت لها، إنها صورة "صالح ومروة" الزوجان.. الحبيبان اللذان تشاركا الحصار وويلاته.. عاشا الظلم بكل طقوسه.. "صالح ومروة" الحبيبان اللذان اختصرا بحر كلمات في وصف الثورة.. اختصراه بصورة تفيض بالحب وتنطق بالانتماء.. صورة تعبّر عن عائلات حلب التي تشاركت الألم وصبرت.. صورة منهكة بتفاصيلها قوية ببنيانها.

على الرغم من كل هذا الجمال الموجود في الصورة، يأتي من يعلّق وهو جالس على مقعده الوثير ليقول "من أمثال صالح ومروة سقطت حلب" بل من أمثال "صالح ومروة" بدأت الثورة السلمية وستنتصر بأمثالهما.
فالحب يصنع المعجزات ولا شيء غيره..


*تجدون التدوينة كذلك على مدونات الجزيرة:

Tuesday 20 September 2016

كم كنت ثقيلاً يا جحش العيد

اعتدنا في بلاد الشام أن نطلق على اليوم الذي يلي آخر أيام العيد اسم "جحش العيد"، لا أعرف من ابتدع هذا الاسم ولا كيف أصبح هذا اليوم مكمّلاً رسمياً للعيد، نواصل فيه الزيارات ونفتح أبوابنا لمن لم يتمكن من زيارتنا في أول الأيام، ولكن ما أعرفه بأنه كان يوماً خفيفاً ولطيفاً، نتمنى أن يستمر أياماً حتى لا تغيب أجواء العيد ويعود إرهاق الدوام.

هذه المرة شعرت بـ "جحش العيد" في اليوم الأول، وبعد صلاة العيد مباشرة، لكنه كان ثقيل الظل، بشع المظهر، كان الخوف ظاهرا على محياه والتوتر واضحا من هندامه، ومع ذلك وبكامل وقاحته أصرّ على الظهور وتمثيل طقوس الفرح في مكان انتزعه من أهله بالقوة، مكان لا تزال رائحة الدماء والدمار تفوح في أجوائه.

حتى هذه اللحظة أحاول تحليل المشهد الذي ظهر به هو وأتباعه، لكنني أقف عاجزة ومذهولة، فكيف لكل هذه البشاعة أن تجتمع في إنسان؟! وهل يستحق الإنسانية من يقصف مدينة طوال خمسة أعوام؟ من يحاصرها ويمنع الطعام عن أهلها ثم يضعهم أمام خيارين؛ الهجرة أو الإبادة؟

هذه المرة الأولى التي أشاهد فيها صلاة عيد خاوية من ألوان الفرح، فلا يوجد أطفال يتباهون بملابسهم، ولا صوت لضحكات النساء، لا يوجد باعة متجولون في الطرقات
خلت داريا من سكانها فسكنت إلى الوحدة، سكنت رغم جرحها العميق، ومع ذلك، فقد اخترق السكون بضجيج مركباته، وداس على الجرح حين دخلها أول أيام العيد راقصاً وضاحكاً رغم الدماء التي لم تجفّ بعد، دخلها برفقة أتباعه لأداء صلاة العيد.

هذه المرة الأولى التي أشاهد فيها صلاة عيد خاوية من ألوان الفرح، فلا يوجد أطفال يتباهون بملابسهم، ولا صوت لضحكات النساء، لا يوجد باعة متجولون في الطرقات ولا تجمّعات حول أضاحي العيد، لا يوجد سوى قتلة متسلّقين على ظهر الدين.

شاهدت الفيديو الذي انتشر لصلاة بشار الأسد في داريا واستمعت لما قاله بعد الصلاة، فلمست اللا عقلانية في خطابه والتوتر في حركاته، وشعرت بعدم تصديقه لكل ما يحدث، بدا لي كالطغاة الذين نقرأ عنهم في كتب التاريخ، بل أكثر إجراماً، فتراءت لي صورته وهو مدفون بجانبهم، وسرعان ما تبادرت إلى ذهني قصيدة "عن إنسان" للشاعر الفلسطيني محمود درويش، التي كلّما قرأتها تذكّرت حالنا نحن الشباب العرب، حالنا منذ نعومة أظفارنا، منذ شباب أجدادنا، وحتى في شبابنا.. أحب هذه القصيدة، فرغم الظلام الدامس الذي يعيش فيه عالمنا العربي، إلا أنها تخبرنا بأن الليل زائل وبأن شمس الانتصار ستشرق من جديد. إليكم القصيدة:

وضعوا على فمه السلاسل
ربطوا يديه بصخرة الموتى
وقالوا: أنت قاتل!
أخذوا طعامه والملابس والبيارق
ورموه في زنزانة الموتى
وقالوا: أنت سارق!
طردوه من كل المرافئ
أخذوا حبيبته الصغيرة
ثم قالوا: أنت لاجئ!
يا دامي العينين والكفّين
إن الليل زائل
لا غرفة التوقيف باقية
ولا زرد السلاسل
نيرون مات ولم تمت روما
بعينيها تقاتل
وحبوب سنبلة تجفّ
ستملأ الوادي سنابل


*تجدون التدوينة كذلك على مدونات الجزيرة:

شرفة مطبخهم.. شرفتي

على شاطئ الهدوء ألقت بي الأقدار، وفي بحر الصمت غرقت، قاومت، تعاركت، فقدت بعضاً من حواسي، لكني لم أفقد رغبتي بالحياة.

أوصلني شغفي إلى مطبخهم، كان وصولي انتصاراً، فها أنا ناقصة الحواس أمتلك اليوم مملكة تتمنّاها الإناث.. أو إن صحّ التعبير، أمتلك وظيفة تنبع من المطبخ وتصبّ فيه، كم تخطّيت من أمواج لأصل إلى هذه الوظيفة، وكم أبحرت بعد ذلك في خيالي هرباً منها.. من هذه الوظيفة التي أصبحت تقضي على ما تبقّى بي من حواس وتدفن كل ما بداخلي من إحساس.

أصبحت أهرب من الفاجعة بالنوم، وعند استيقاظي ألجأ للرسم، فالرسم بالنسبة لي لغة أتقنها.. رسمت فتاة ببطن كبير، رسمت طفلاً صغيرا،ً ورسمت عائلة بلا أب.
في مطبخهم تعلّمت الكثير من أصناف الطهي، وتعاملت مع القليل من أصناف البشر، كنت أعدّ الكثير من الطعام، لا أعرف لمن! كان منزلهم خالياً إلا من أنفاسي وأنفاسهما، هذان الكهلان الوحيدان، هذان الوحيدان إلا من ذكرياتهما المعلّقة على جدران الفرح والشباب.

كان حضوري إليهما كسراً للروتين، فعلى الرغم من تفاجئهما كوني لا أتحدث ولا أسمع، إلا أنهما رحّبا بي، وقرّرا تعلّم لغة الإشارة من أجلي، وتعليمي لغة الومضات من أجلهما، وضعا في المطبخ أجراساً ضوئية بألوان مختلفة كي أتنبه على نداءاتهما الصادرة من غرفة النوم، وغرفة الجلوس، وباب المنزل، باب المنزل الذي لم أخرج منه منذ دخولي إلى عالمهم.. كانت شرفة مطبخهم، شرفتي، مخرجي من هذا العالم.

كانا ينامان في تمام الساعة الثامنة مساءً، وكنت أنام بعدهما بساعات.. كان الليل بغيابهما ممتعاً، أقضيه على شرفة مطبخهم، شرفتي التي أنام فيها، أحلم، أستيقظ وأسهر لأستحضر الذكريات أو لأقلّب نظري على كل ما يظهر لي من مشاهد.. ما أجمل السهر على هذه الشرفة.

كل ليلة، في تمام الساعة التاسعة، كنت على موعد مع شرفتي، أخرج إليها، أفتح بعضاً من نوافذها وأسند ذراعيّ على واحدة منها، ثم أسند رأسي على ذراعيّ وأمدّ بصري للأسفل.

رغم وقوفي الطويل على هذا الشكل، إلا أنني لم أكن أشعر بالتعب، فقد كان شغف اللقاء بأشخاص والتعرّف على حكاياتهم يملأ كل خلية في جسدي، أنا المشتاقة لبسمة ما، أو لمجرد نظرة.

التقيت بأطفال يلهون بحرية في الشوارع، وبعائلات تأكل ما لذّ وطاب على موائد حدائقها، رأيت أدخنة كثيرة تنبعث في السماء من أفواه الساهرين، وأعيناً مترقّبة تكتشف وجودي فيحرّك أصحابها أفواههم بكلمات لا أدركها.. كنت أشيح بنظري عنهم لأجد عشاقاً يحتمون بظلال الأشجار هرباً من الكبار، وسيارات فارهة يصفّ أصحابها بهدوء على أبواب منازلهم، وفي أكثر الأماكن إنارة كنت أجد يداً ممتدة للسماء ومجموعة أشخاص يبتسمون لها.. كنت أضع نفسي مكانهم وأطلق العنان لخيالي، لتعيدني إلى الواقع إشارات رجل من الأسفل.. أكره هذا الرجل، كان دائم التجسّس عليّ، ماذا تراه يريد؟

في ليلة صيف هادئة، لفتت نظري ومضات جرس المنزل، كانت عقارب الساعة تقترب من الواحدة صباحاً، تفاجأت.. حملني الفضول لأرى من الطارق.. كان ذاك الرجل الكريه، لم يكن كريه الحضور فحسب، بل الرائحة كذلك، هذا ما استنتجته بعد لحظات من فتح الباب، حاولت منعه، قاومت كثيراً.. لكنني فشلت.

لقد كان حارس المنزل الذي أعمل فيه، وكان لزاماً عليّ التعامل معه، فأنا وهو من نتشارك في تسيير الأعمال من الداخل والخارج.

مع مرور الليالي، بدأ الوقوف الطويل يرهقني، ولم أعد قادرة على الالتصاق بسور الشرفة ومدّ بصري للأسفل، فكتلة بيني وبينه بدأت تظهر.. أصبحت أهرب من الفاجعة بالنوم، وعند استيقاظي ألجأ للرسم، فالرسم بالنسبة لي لغة أتقنها.. رسمت فتاة ببطن كبير، رسمت طفلاً صغيرا،ً ورسمت عائلة بلا أب وكل ما يخطر في البال من رسومات ترمز للحمل.. كنت ألقي برسوماتي هذه من الشرفة، حيث يقف ذاك الرجل، لكنه لم يعد يلتفت لي ولا لشيء منّي.. أصبحت أمرّرها مع ورقة الطلبات اليومية التي أعطيه إياها عبر الباب، لكنه كان يكتفي بتمزيقها.. حاولت أن أخبره بالإشارات لكنه اتّخذ الدرج مهرباً له واختفى. الدرج، قد يكون مخرجي، سأزرعه نزولاً وصعوداً وبأقصى ما أملك من سرعة لعلّه يُثمر بتحريري..

محاولتي الأولى لم تنجح، سأحاول غداً، لكنني سأشرب خلال سهرتي على الشرفة إبريقاً من شراب القرفة، فقد سمعت أن أثره يجدي نفعاً في هكذا حالات، وسأواظب على ضرب ذنبي الذي لم أقترفه لعلّني أتطهّر منه الليلة.

هذه حكاية فتاة ضحّت بعمرها لتنتشل عائلتها من جيوب الفقر المليئة في بلادها، هذه حكاية اكتفت بذكر الوحدة التي تعاني منها العاملات والاستغلال.
استيقظت في الصباح الباكر ولا تزال هذه الكتلة تثقل قلبي قبل جسدي.. سأعيد ما فعلته البارحة، قبل الإفطار وقبل أن يستيقظ أحدهما ويلتفت إليّ.

مرّة، مرّتان، ثلاث، أربع، خمس، آه.. لم أعد أقوى على العد، صوت لهاثي أصبح عالياً، لكنني لن أستسلم.. أين وصلت بالعد؟ لا أذكر.. إذاً من جديد.. مرّة، مرّتان، ثلا.. ثلا.. آآآه.

يا له من صداع.. يا إلهي! رأسي ينزف ويبدو أنني أنزف من مكان آخر كذلك.. آآآه.. كلّي أتألّم.. هل سيشعر بي أحدهم؟ هل سيراني أحد السكان؟ لن أستجدي الأمل، سأكتفي بضمّ نفسي على عتبات الألم، فأنا مجرّد عاملة، لا صوت لها سوى الأنين.

- هذه ليست حكايتي، هذه حكاية فتاة ضحّت بعمرها لتنتشل عائلتها من جيوب الفقر المليئة في بلادها، هذه حكاية اكتفت بذكر الوحدة التي تعاني منها العاملات والاستغلال الذي قد يواجهنه دون التطرّق للعنف اللفظي والمعنوي الذي يمارس ضدهّن.. وما خفي كان أعظم.



*تجدون التدوينة كذلك على مدونات الجزيرة:



Monday 5 September 2016

خلص.. فلسطين عيّدت

اعتدت الانتظار طويلاً حتى يتكرّم أحد سائقي التكسي بالوقوف لي والموافقة على نقلي إلى وجهتي، فعلى الرغم من ازدحام شوارع عمّان/ الأردن بهم، إلا أن هذه الشوارع مزدحمة كذلك بالواقفين على عتبات الانتظار.

أزمة الانتظار المهلكة هذه، دفعت كثيراً من الواقفين إلى التنازل عن حقهم بركوب سيارة تكسي خاصة بهم وحدهم، هذه الأزمة نفسها، هي التي مكّنتني قبل حوالي أسبوعين من التعرّف على سائق تكسي يجيد الحديث بثلاث لغات غير العربية، كان يُظهر براعته بالإنجليزية مع كل انعطافة يطلبها منه الراكب الأجنبي الذي يجلس بجانبه.

كانا يتبادلان الأحاديث وأنا أستمع لهما تارة، وأسرح أطواراً، ثم جذب سمعي الراكب الأجنبي وهو يعبّر عن تفاجئه لحديث السائق باللغة الفرنسية، أنا تفاجأت كذلك، فأعدت تركيزي إليهما، كنا قد أصبحنا على مقربة من وجهتي، فتحدثت بعد صمت طويل لأرشده إلى طريقي، في هذه الأثناء، التفت السائق إلى الراكب الذي بجانبه وسأله:

-
ما شلومخا؟ (جملة عبرية تعني "كيف حالك؟")
توقفت حركة السيارة وعمّ الصمت لبضع لحظات، لأكسره بإجابتي:
-
شلومي توف. (جملة عبرية تعني "أنا بخير")
لم يستطع سائق التكسي إخفاء دهشته، التفت إليّ وقال:
-
عمّي.. إنتي من وين؟!

سؤاله أوقعني في حيرة لطالما وقعت بها، كيف تراني أجيب! من أين أنا؟ وهل وطن واحد يكفي لمن نشأ مثلي؟

إن أخبرته بأنني أردنية سأشعر بوخزة في صدري، فكيف نسيت إخباره أنّي يافوية الأصل، وأن والدتي دمشقية، وأنّي أتمتّع بطيبة أهل الحجاز! وإن اكتفيت بنسب نفسي إلى فلسطين، سأشعر بوخزات من تأنيب الضمير، فأين الأردن التي ضمّتني ورعت إنجازاتي؟ أين سوريا التي زادت جمالي؟ وأين السعودية التي صبغتني بطابع ميّزني عمّن حولي؟

بكل الأحوال، وبعيداً عن حيرتي التي وقعت بها، أجبته على النحو التالي لأنفي ظنّه بكوني من سكان فلسطين "الضفة" أو فلسطين "الـ 48":

-
يا ريتني من سكان فلسطين، أنا من هون.. بس تعمّدت أتعلم اللغة العبرية.
-
والله..! وليش؟
أعاد تحريك السيارة وأنا أجيبه كما اعتدت وبكامل ثقتي:
-
لإنها لغة عدوّي.
-
عن أي عدو بتحكي يا عمي؟!
-
عدوّي.. عدوّنا المشترك.. إسرائيل!

نظر إليّ عبر مرآته نظرة متفحّصة، أطال النظر، وأنا كذلك نظرت إليه، كان رجلاً يتجاوز الخمسين من عمره، ببنية منتصبة توحي بأن صاحبها كان رياضياً.. انعطافة واحدة إلى اليمين ونصل إلى وجهتي، أخبرته بذلك، فانعطف وهو يقول لي:
-
القصة مش قصة عدو.. القصة إنه بدنا نعي..
-
(قاطعته): هون لو سمحت..

ترجّلت من السيارة دون معرفة ما يريد الوصول إليه، لم أقصد مقاطعته، لكنني وصلت وهذا يعني انتهاء الحوار، ومع ذلك، فقد شعرت من أسلوبه بأنه ممّن يدافعون عن التطبيع ويبرّرون وجوده، أو قد لا يكون كذلك.. لن أحكم عليه، فلم أكن قد سمعت بقية حديثه.

سرعان ما غابت هذه الحكاية عن ذهني، فلا حبكة تميّزها ولا حكم أستطيع الخروج به، ولكن، ما لم أستطع نسيانه أو فهمه حتى هذه اللحظة، ما حدث معي قبل أسبوع من اليوم، حين أجبرتني من جديد ظروف الازدحام والانتظار الطويل إلى ركوب سيارة أجرة تضمّ راكباً قبلي، كان رجلاً كبيراً يبلغ الستين من عمره أو يزيد.

وأنا أهمّ لركوب السيارة من بابها الخلفي، سمعت السائق وهو يطلب إذن هذا الرجل بالسماح لي بمشاركته السيارة ليجيبه على الفور "بلهجة فلسطينية صافية":
-
طبعاً يا عمي.. هاي زي بنتي.. ولو! أصلاً هاي القصص هيّه اللي مأخرتكوا إنتوا العرب.

لم أفهم ما القصص التي قصدها، فالواضح أنه تعمّق أكثر مما ينبغي.. لكنّني استغربت من قوله "إنتوا العرب" وكأن لهجته ومحياه لا يحملان وجهنا نحن العرب!

أرشدت سائق التكسي إلى وجهتي ثم أطلقت نظري عبر النافذة، لأسمعه يقول وأنا أتأمل أرصفة عمّان الممتلئة بالأشجار والشروخ:

- يعني أرصفتنا مثلاً مستحيل تكون زي هيك.. عنّا الأرصفة عالنظام الأوروبي.. على مستوى واحد ونظيفة وما عليها شجر، عنّا الأعمى بقدر يمشي بكل راحة وسهولة.. مش زي عندكوا. لا والشوارع.. كلها مخططة ومنظّمة.. أنا عمري ما شفت شوارع زي هان..
- سائق التكسي: بس هان الشوارع مخططة كمان..
- وين مخططة؟!
- مخططة بس مش مبينة لإنّا بنمشي فوقها.. بس لو عملنا حادث لا سمح الله بنتخالف.. غير هيك عادي..

طالت مقارنات "عندكوا وعنّا" بين الرجل وسائق التكسي، وأنا لم أفهم بعد هو من أين، إلى أن قال:
- أصلاً نص أراضي الأردن إلنا.. إحنا اللي حاميين هالبلد.. ولا شو فكرك إنت؟

شدّ سائق التكسي قبضته على مقود السيارة، رغم محاولة الكتمان، إلا أن مشاعر الامتعاض ظهرت عليه، ومع ذلك فإنه آثر الصمت، لحظات من الصمت كسرها سائق التكسي الذي لم يستطع الصمت أكثر، ليقول:
- إحنا عنّا أراضي بالبلاد (يقصد فلسطين)، مش مستفيدين منها، ومع هيك مستحيل نبيعها ليهودي.. مع إنه كل يوم بتّصلوا فينا ولاد عمي وبقنعونا نبيعها بس مستحيل نبيعها.
- يا زلمة شو مستفيدين!
- مستفيدين إنه الحق ما يضيع.
- أي حق؟ ولك خلص.. فلسطين عيّدت! كلها كم سنة وبنوخذها كلها.. مالك إنت؟!

عاد سائق التكسي لصمته على مضض، أكملنا الطريق حتى وصل الرجل إلى وجهته، ترجّل من السيارة متّجهاً لأحد فنادق عمّان، أما أنا والسائق، فقد واصلنا الطريق والتعجب يملؤنا.

فاجأني هذا الرجل، لو سمعت ما قاله من شاب في مقتبل العمر لما تفاجأت إلى هذا الحد، فجيل اليوم لم يعش معاناة التهجير والشتات، لم يشهد سرقة فلسطين بكل ما تحمله من خيرات ولم يلمس محاولات طمس أي أثر لتاريخها، ولكن، كيف لرجل بهذا السن أن يكون بكامل تسليمه وولائه؟! كيف له أن يعبّر عن حبّه لمن اغتصب أرضه ودمّر أهله؟!

لم أجد أي إجابة تشفي الغليل، حتى قرأت تدوينة على مدونات الجزيرة، يقول الكاتب في ختامها: "كارثة أوسلو الأكبر من ناحيتي، كانت يوم توجّهت إلى أحد مدراء المدارس "العربية الإسرائيلية" في الداخل الفلسطيني لأخبره بأنه لا بد من العمل أكثر على التوعية بالقضية الفلسطينية وأنه لا يعقل أن يخرج الطفل بعد سنوات من المدرسة وهو لا يعلم ما معنى النكبة ومتى احتلّت فلسطين وكيف يكون علمها وحدودها ونشيدها، فكانت الصاعقة عندما أخبرني: لا مشكلة عندي في أن تكون هناك محاضرات عن فلسطين، فهم جيراننا ولهم علينا حق!".



*تجدون التدوينة كذلك على مدونات الجزيرة:

Wednesday 13 April 2016

الأطفال في عزلة الحواسيب اللوحية

ما إن دخلت سارة (22 عاماً) أحد المطاعم الشهيرة في عمّان برفقة شقيقها الذي يصغرها بعشرة أعوام حتى عاد بها الزمن إلى أيام طفولتها، لتقارن بين طفولة جيلها وطفولة جيل أخيها.

تقول سارة "في الماضي كانت الألعاب الجماعية التي توفرها المطاعم أو الموجودة في الحدائق العامة تجمعنا بأبناء جيلنا، لنلعب معا بمرح كأننا نعرف بعضنا منذ زمن، لكنني الآن لم أعد ألحظ أي طابع جماعي في ألعاب الأطفال، إنهم يميلون إلى العزلة والهدوء، فبأيديهم أجهزة لوحية تكفيهم وتغنيهم".

وتضيف "حتى أن أحد المطاعم وفّر -بالإضافة إلى الألعاب التقليدية- قسماً خاصاً بالأجهزة اللوحية، التي جذبت أنظار الأطفال إليها، وأسهمت في ترك الألعاب التقليدية فارغة".

يشبّه المستشار الاجتماعي سيد الرطروط التغيرات التي طرأت على تصرفات الأطفال بالعدوى التي وصلتهم من أسرهم.

حيث يقول إن منظومة التواصل بين الأهل وأبنائهم تراجعت بسبب التطور التكنولوجي الذي طال الجميع، مما جعل الأطفال يجدون أجهزة جديدة تغنيهم عن أهاليهم المشغولين عنهم بأجهزة شبيهة.

في المطعم ذاته، التقت مجلة الجزيرة أسماء (العشرينية) التي كافأت ابنتيها (خمسة أعوام وثمانية) بإحضارهما لتناول وجبات الطعام التي يحبانها، ومن ثم اللعب على الأجهزة اللوحية التي يوفرها المطعم.

تقول أسماء إنها تحاول قدر المستطاع تقليل فترة لعب ابنتيها على الأجهزة اللوحية، لأن انغماسهما في اللعب عليها يزيد انطواءهما وتحولهما إلى فتاتين عدائيتين في حال غيابها.

منى (33 عاماً) أم لثلاثة أطفال، لاحظت كذلك انجذاب أبنائها إلى الأجهزة اللوحية أكثر من أي لعبة تقليدية أخرى، الأمر الذي جعلهم يجهلون كيفية اللعب الجماعي.

تقول منى "للأجهزة اللوحية أثر إيجابي كبير على الرغم من السلبيات الكثيرة التي تحيط بها وتؤثر على أطفالنا"، حيث لاحظت أن هذه الأجهزة ساعدت في تنمية إدراك أطفالها في وقت مبكر لم يكن ليحدث مع أطفال من أجيال سابقة، كما أنها ساعدت في منح أطفالها قسطاً من الهدوء.

يؤكد ذلك الرطروط، حيث يقول إن الأجهزة اللوحية تزيد ذكاء الأطفال ومدى تفاعلهم، لكنه يصرّ على ضرورة رقابة الأهل على جميع حركات الأطفال عليها.

وهذا ما أكدته منى التي تحافظ على متابعة ما يفعله أطفالها، وتخصيص ساعات محددة لاستخدام هذه الأجهزة، كي لا تتحول إلى إدمان وتؤثر سلباً عليهم، وليكون لديهم وقت آخر للعب التقليدي وممارسة حياتهم الطبيعية.

وفي ما إن كان استخدام هذه الأجهزة يزيد مستويات العدائية لدى الأطفال، تقول منى "لاحظت على ابني الأكبر بعض التصرفات العدائية، وهذا يعود إلى نوعية الألعاب
والبرامج التي يختارها، فهو يحب اللعب بالديناصورات كثيراً، الأمر الذي يجعله يطبق حركاتها على إخوته الأصغر بمجرد تركه جهازه اللوحي".

مضيفة "بشكل عام، تزيد نسبة العنف عند كافة أبنائي إن زادت فترة جلوسهم على الأجهزة اللوحية أو إن غابت عنهم كلياً، لذلك أحاول تخصيص وقت محدد لاستخدام هذه الأجهزة وتعويدهم على عدم التعلق بها وخلق بدائل كثيرة لهم".

من خلال تجربة الثلاثينية حنان مع أبنائها، لاحظت وجود الكثير من الألعاب غير المدروسة التي تعتمد على العنف أو السرعة المبالغة لتخطي مراحلها، مما قد يؤثر بشكل سلبي على قدرات الأطفال ويفقدهم التركيز في ما حولهم.

تقول حنان "أحاول إبعاد أطفالي عن الألعاب المضرة، لكنهم بشكل أو بآخر يلعبونها"، مضيفة "ابني (سبعة أعوام) يصرّ على تحميل ألعاب العنف، فهو متعلق بها بشكل لا يوصف، الأمر الذي جعلني بعد فترة من لعبه ألاحظ تغيراً على أسلوبه في التعامل مع أخيه الأصغر (خمسة أعوام)، حيث أصبح يميل إلى الضرب خلال لعبه معه، وإلى فعل حركات غريبة في الهواء مع إطلاق تسميات غريبة لكل حركة".

بالإضافة إلى ذلك -تقول حنان- إن هذه الأجهزة أفقدت الأطفال بشكل عام قدراتهم على التواصل والتحاور مع بعضهم ومع من حولهم، حيث جعلت مستوى ذكائهم الاجتماعي يتدنى، وجعلتهم يميلون إلى الانفراد خلال لعبهم.

وتواصل حديثها "كان أبنائي وأولاد عمومتهم يلعبون معاً باستمرار، لكنهم أصبحوا الآن يجلسون معا دون أي تواصل، ففي يد كل واحد منهم جهازه اللوحي، الذي حرمهم من متعة التواصل وتبادل الخبرات". و"أعمل جاهدة على إبعاد أطفالي عن هذه الأجهزة، لكن التحدي صعب وكبير في ظل انتشارها الواسع وسحرها عليهم".

وفي هذا الخصوص، يقول الرطروط إن الأجهزة اللوحية سلاح ذو حدين؛ فهي قادرة على رفع مستويات الذكاء لدى الطفل، وتدميره ورفع مستويات العدائية لديه أيضا، وذلك يعود لرقابة الأهل، ومراقبة سلوكه الناجم عن استخدامها لدراسة أسبابه ومعالجته.


وفي ظل الانتشار الواسع للأجهزة اللوحية بين الأطفال، يبقى السؤال الأهم الذي لا بد من الالتفات إليه هو: هل ستغير هذه الأجهزة فطرة الأطفال التي كانت تجري خلف كرة القدم أو تنطلق إلى الأرجوحة أو تختار لعبة جماعية "كالاستغماية" بفطرة ميّالة إلى الوحدة وبعيدة عن روح الجماعة؟



*تجدون التقرير كذلك على الموقع الإلكتروني للجزيرة نت: