Thursday 26 March 2015

فلسطينيو سوريا.. رحلة لجوء جديدة

حتى هذه اللحظة، وعلى رغم الفراق والضياع، التهجير والتهجين، اختلاط اللهجات والجينات، إلا أن هويتي لا تزال فلسطينية.

هذا ما أكده لي سائق تكسي في مساءٍ ليس ببعيد، حين كنتُ أهمّ بإعطائه أجرته بعد أن أوصلني إلى وجهتي، ليفاجئني بلهجة فلسطينية صافية، وهو يقول "حكيِك وهِيئتك يا عمو بيؤولوا إنك فلسطينية، ولا أنا غلطان؟"، شعرتُ بنشوة النصر، ملأني الفخر، فرفعتُ رأسي على الفور وأجبته بابتسامة تعشق الحياة "صحيح أنا فلسطينية".

آآآه ما أعظمه من شعور! فلا تزال ملامحي تحملُ هويتي، وها هو لساني يُخبر عنّي وعن جيلَيْن سبقاني.

آآآه ما أجملني! آآآه كم أنا فلسطينية!

ولكن؛ ما أبشع ذاك الشعور حين يضمحل، حين يحلّ مكانه الخزيّ والعار، حين يذكّرك أنك نسيت جزءاً منك، أنك أصبحت بعيداً عنك!

آآآه ما أبشعني! آآآه كم أنا غريبة اليوم!


حاصِر حصارك

في أكثر من 100 مدينة حول العالم أُقيمت في الأيام الماضية فعاليات أسبوع "حاصر حصارك" العالمي لمقاومة الاستعمار والفصل العنصري الصهيوني.

في عمّان عاصمة الأردن، وفي مسرح البلد تحديداً، حضرتُ جزءاً من هذه الفعاليات، لقد كنتُ متعطشة جداً لجرعة غضب جديدة، لحق عودة يقترب كل يوم، لأذكّر نفسي بوحشية الاحتلال الصهيوني في الضفة وقطاع غزة، لأعيش مقاومة يسطُرُها بعزة وكرامة شعبُ فلسطين الأبيّ، شعبي الذي بدأ يتلاشى صوته في خضمّ الأحزان العربية المحيطة. 





فلسطينيون لا مرئيون يعيشون في سوريا


"لا سبيل للعودة الآن، يا صديقي" شدّني اسم الفيلم الوثائقي للمخرجة اللبنانية كارول منصور، ففي قاموسي، عودة مرادف لفلسطين، وأي مرادف لفلسطين يُلزمني بأن أكون أول الحضور.


بنيتُ في مخيّلتي الكثير من السيناريوهات عمّا قد يقدمه الفيلم عن فلسطين، لكنّي نسيتُ سيناريو واحداً.. سيناريو فاجأني كصفعة والد يخشى على أبنائه من الهلاك أكثر.

إذاً، هو أسبوع مختلف، فقد تحدث عن فلسطينيي الشتات الأقل حظاً، الأكثر نسياناً.. هؤلاء الذين يعيشون تاريخ أجدادهم، تاريخ النكبة الأولى، ولكن، بنكهة سورية، وما أمرّها من نكهة.

آآآه كم أنا صغيرة! كيف لم أتذكرهم من قبل! كيف نسيتهم إلى هذا الحد! إنهم يتقاسمون مع السوريين الخوف والقلق، الموت والفقدان، النزوح واللجوء، لكننا لا نراهم، لا نشعر بهم!



مخيم اليرموك.. نبض فلسطين في سوريا

كثيراً ما كنتُ أحتار وأضيع إن سألني أحدُهم "من أين أنتِ؟"، كيف تُراني أجيب! من أين أنا؟ وهل وطن واحد يكفي لمن نشأ مثلي؟

في كل مرّة أجيبُ بها بأنني أردنية أشعر بوخزة في صدري، فكيف نسيتُ إخبارهم أني فلسطينية من يافا، أن والدتي سورية من دمشق، أنّي وُلدت في السعودية واكتسبتُ طيبة أهل الحجاز!

وفي كل مرّة أكتفي فيها بنسب نفسي إلى فلسطين، أشعرُ بوخزاتٍ من تأنيب الضمير، فأين الأردن التي ضمّتني ورعت نجاحي! أين سوريا التي زادت جمالي! أين السعودية التي صبغتني بطابع ميّزني عن كل من حولي!

في بداية الفيلم، تم التحدث عن هذه الجزئية، ففرحتُ بأنني لستُ الوحيدة، جميعنا نحن الفلسطينيون سواسية في هذا الشعور وإن اختلفت حكاياتنا.

في الفيلم، كان التركيز الأكبر على مخيم اليرموك، على هجرة الفلسطينيين الجديدة، منهُ إلى لبنان فجنيف وباريس.

كانوا صامدين، مقاومين ككثير من السوريين، فهنا رائحة فلسطين، هنا البدء الجديد، هنا الأمل بغدٍ أجمل.. 

ولكن، ومع إغارة طائرات الميغ القاسية في الأيام الأخيرة من عام 2012 بدأ النزوح، بدأت الهجرة ومن ثم اللجوء الجديد، وبدأ الحصار على من اختار البقاء.

هل لأنهم احتووا أشقاءهم السوريين الذين نزحوا للمخيم عندما اشتد العراك؟! أم لأنهم أصل المقاومة والصمود، وهذا بحد ذاته مخيف؟! أوليسوا هم أبناء شعب تغنّى النظام باتباع سياسة المقاومة والممانعة مع مُحتله؟ أولم يفعل ذلك كُرمى لعيون شعب فلسطين المحاصر اليوم والمعتقل في سجونه؟



فستق، أمي والفراق

في الفيلم أبطال صغار وكبار، أبطال من عمر النكبة الأولى، بل وأكبر، وآخرون لم يتجاوزوا الـ10 أعوام، أبطال حملوا وطنهم الأول والثاني في قلوبهم ورحلوا في رحلة جديدة نحو المجهول.

يقول أحدهم بلهجة فلسطينية ممزوجة بالسورية "خلِئت لاجئ، بس أرجع أختار إني كون لاجئ! اختيار صعب".. يضيف آخر "الاشتياق حرفة" أصبحنا نحن الفلسطينيون نمتهنها.. نسمع صوتاً جديداً "بعد ما كان حلمي أرجع فلسطين، صار حلمي أرجع 
المخيم"، تضيف سيدة "كنت بسوريا حزنانة على حالنا.. بس لمّا جيت هون علبنان وشفت وضع الفلسطينية حمدت الله عالنعمة اللي كنا عايشين فيها".

وعلى رغم المرارة، إلا أن الفكاهة لا تزال تداعب وجدان الشعب الفلسطيني.. يشبّه لاجئ فلسطيني سوري في لبنان مخيم اليرموك في سوريا بأرقى شوارع باريس إذا ما تمّت مقارنته بمخيم شاتيلا في لبنان، لكنه سرعان ما يتراجع عن تشبيهه المبالغ فيه بأسلوب أضحك المشاهدين.

يظهر شاب من مخيم اليرموك، يحلم بالهجرة إلى السويد، لكنه حزينٌ على والدته، كيف ستقدرُ على فراقه وهو آخر إخوته في المخيم، جميعهم رحلوا، لم يبقَ سوى هو ووالدته.

يقول "إمي بدها ياني أسافر، بتشجعني ألاقي مستقبل أحسن.. بتقول إنها رح تتحمل.. بس هيّي كذابة! كيف رح تقدر تعيش من غيري! كيف مش حتشتقلي! إمي كذابة" يضيف تأكيداً لما يقوله وبأسلوب أضحك المشاهدين كذلك "أنا جبت قطة من الشارع، سمّيتها فستق.. ما خلّفتها، بس لقيتها جوعانة فأخدتها وربّيتها.. بدي أسافر معها، عم بطلّعلها وراق سفر.. لإنه ما بقدر أتركها، قلبي تعلّق فيها مع إنها مش بنتي.. كيف إذاً إمي رح تعيش وأنا بعيد عنها!".

جميع من في هذا الفيلم تحدث، تحدث ليطهّر روحه ويبدأ رحلته بأمل جديد، ليحافظ على مقاومته في درب يفيض بالألم.


سارة عودة.. المرأة الفلسطينية بصمودها وعزيمتها

رصاصة قنّاص نقلتها إلى عالم أجمل وأنقى، عالم بعيد عن الحصار والذلّ، صعدت بها إلى السماء لتجمعها بزوجها.

إنها الفلسطينية سارة عودة، ابنة مخيم اليرموك، ابنة الـ25 ربيعاً، ها هي ترسم بدمائها لوحة جديدة لشعب عاش النكبات واللجوء مرّات عديدة.

أُجبرت على ترك مخيّمها وخطيبها علاء فرحان بسبب الحصار، لجأت إلى بلغاريا، وعبر الإنترنت كُتب كتابها على علاء، أصبحا زوجان رغم الحصار، رغم المسافات.

رفضت البقاء في بلغاريا بعد أن علمت باستشهاد زوجها، عادت لتزور قبره، وطلبت أن تُدفن إلى جانبه.

قبل أيام، علم الجميع بنبأ استشهادها، تم قنصها وهي تنتظر كرتونة الغذاء التي تقدمها منظمة الأونروا لعدد قليل من أهالي المخيم.

ها هي اليوم ترقد بحب وسلام بجانب زوجها علاء، ها هي اليوم تعلّمنا درساً في الحب والوفاء، تخبرنا كيف تكون التضحية، ها هي اليوم تضيف معنى للرجولة.



أيّ حب هذا الذي سطرتيه بقلبك يا سارة؟! وأين نحنُ منكِ؟! أين هي منظمات حقوق الإنسان عن هذا المخيم؟ عن أكبر تجمّع للفلسطينيين في سوريا؟! أين هم الفصائل الفلسطينية؟!

4 comments:

  1. مهما تداعت الظروف لديك واختلفت الأزمنة عندك سيبقى المعدن الفولاذي داخلك والمتمثل في الأصل الفلسطيني يدغدغ وجدانكِ ماحييتِ.
    فالمرء العاقل لو لم يكن فلسطينيا شهيدا اسيرا مجاهدا صلبا عزيزا، لودَّ أن يكون ..
    بوركت أناملكِ ودام احساسكِ وكلي فخر بنصفي الفلسطيني ..
    قـتـيـبـه

    ReplyDelete