Saturday 7 July 2012

وسط ُعمّان حيثُ الواقعُ يَفيض

من تدوينات مكتوب المرحوم - 2012

      مُدهشٌ تناقضُ الحياة؛ ما هو أساسيٌ لدى البعض، رفاهيٌ لدى آخرين! وبشعٌ جَورُها؛ فكم حرمت أُناساً من أدنى حقوقهم، حتّى جعلت منهُم بشراً غارقاً في العَوز، وكم أغرقت آخرين في رغدهم، فصنعت من حبّ الذّات منهجاً لهم.
     هنا في وسط عمّان، المُكتظة شوارعه بالمشاة سيراً أو على مركبات، والممتلئة أرصفته بالباعة وببضائعهم التي اعتادت الرّكود، وبالمحال ذات النكهة الخاصّة، وبكثيرٍ من المتجولين، وبطائفةٍ من الماكثين القابعين في هامش الحياة، هنا؛ أدركتُ أنّ ما ترصده عينيّ جزءٌ لا يتجزأ من حاضر المكان، جزءٌ يزيدُ هذه المنطقة جمالاً وبهاءً.
     تجوّلتُ في شوارع وسطِ عمّان، ذات التضارب الصّارخ في مكوناتها، بشراً وجماداً، والمُحاطة بجبالٍ تزيدُها ألقاً، لكنّ رائحةً كريهةً ملأَتْ أنفي؛ فتنبّهتُ على بائعٍ يقذف بأكياس قمامة على حافّة الرصيف، وكأنّهُ يجهلُ أنّ تلك السلال على الرصيف المُقابل مخصصة لاحتواء هذه القمامة! ومع الأسف؛ حين تنقلتُ أكثر في شوارع وسط العاصمة؛ أدركتُ أنّ أكياس القمامة المتناثرة هنا وهناك؛ من أساسيات المكان، وأن إلقاءها في السّلال هو الأمر الغريب!
     ثمّ؛ في باحة المسجد الحُسيني؛ لفت انتباهي طفلٌ يُروّجُ لبضاعته، عمره لا يتجاوز العاشرة، لكنّ هيأتهُ وهندامه يوحيان بغير ذلك، وكأنّما قسوة الحياة أعادت عَجْنه، لتستبدل بشاشة وجهه وبراءة عينيه بمظهرٍ عابسٍ واجم.
     اقتربتُ منه، ألقيتُ عليه التّحية، ثمّ سألتُهُ إن كان يذهب إلى المدرسة، فلم يجبني أنه يذهب فحسب، بل أخبرني أنّهُ متفوقٌ بدراسته كذلك، فسألتُه عن سبب غيابه في هذا اليوم، ليجِبني أنّ على والده إنجاز بعض المهام، الأمر الذي جعله يحل مكانه إلى حين قدومه، فهذا مصدر رزقهم الوحيد، وهو رجل المنزل في غياب والده.
     لم أستطع سوى الإعجاب بهذا الطّفل الرجل، ومع ذلك فقد حزنتُ على طفولته المهدورة، هو وغيره ممّن تتشابه حكاياتهم معه، وكم هُم كُثر…
     خلال سَيْري؛ وقع نظري على سيدةٍ تمتلكُ وجهاً نُحاسياً وادعاً، الكهولة باديةٌ عليها من نظرةِ عينَيها وتجاعيدِ يديها، وكذلك من ظهرها المُنحني وهي تسير، تابعتُ خُطاها، فإذا بها تتّخذُ من إحدى المساحات الفارغة على الرّصيف المُزدحم بالمُشاة والبضائع مقرًّا لها، فتجلسُ بكل أريحيةٍ وكأنّهُ مأواها المُعتاد، ظلُّها هو الشّمسُ، أمّا رفيقُها الوفي فهو الجوع، هذا ما استنتجته من جسدها الذائب في ثوبها!
     أكملتُ سيري لكن فكري بقيَ مشغولاً بحال هذه السّيدة، التي تُمثلُّ شريحةً واسعة في وسط البلد، حتى أيقظني من شرودي ضحكُ فتاةٍ ممتلئة بأشكال البذخ، يحيطُ بها فتيات أخريات لا يختلفن عنها، يبدو أنّهن جئن للتنزُه في هذه المساحة الحقيقية من عمّان.
     لم أعجب لهذا التناقض، فهنا الواقعُ ملموس، أُناسٌ يَسْعَوْن جاهدين لنَيْل حقوقهم المشروعة، وآخرين مُتخمين من التّرف، قادمين إمّا للتطفّل، أو للاستحواذ على مزيدٍ من الرفاهية.
     بالفعل؛ حقيقةُ الأمور تتضحُ هنا، حيثُ التآلُفُ والاختلافُ موجودان، حيثُ لا مجال للإنكار أو الكتمان، فهذه هي الحياة؛ ببساطتها المُفرطة، وبإجحافها الآخِذ بالتمادي.
    

No comments:

Post a Comment