Friday 6 July 2012

أَيَـا عُـزْلَـةُ





من تدوينات مكتوب المرحوم - 2010

     مكان اعتادها واعتادته، أنارت ظلمته بوجودها الفتي فأنار فكرها بوحيه غير المنقطع، آنسته بفراغه الموحش فآنس وحدتها المفرطة.
     كانت تلجأ إليه بشكل يومي، فيوما نجدها تلتمس الأمان منه حين يمارس الزمان إرهابه عليها، ويوما نجدها تتقوقع فيه، وتغمر جسدها بعبراتها حين تشعر بغدر الأيام، ويوما تقرر دعوة بعض المقربين إلى مقرها ذاك، فنجدها تقرأ كتابا على نور خافت، أو تخط رسالة إلى عزيز بعيد، أو تسطر بقلمها الغالي بعض الحكايا الواقعية الخيالية، وما أكثر ما نجدها تسطر الحكايا.
     أصبح بينها وبين مقرها ذاك وما يحويه من كتب وأوراق وأقلام وشموع وأعواد كبريت؛ علاقة ألفة منقطعة النظير، حتى أنها استغنت بممتلكاتها تلك عن حياة البشر التي تمقت كثيرا من مظاهرها.
     بقي ثلة من البشر الذين ينيرون قلمها ليسطر أحلى الكلمات، أو أبشعها أحيانا، فتنتعش أوراقها بحكايات أو مذكرات قد تكون القاضية لها.
     ألفت ممتلكاتها حتى باتت تحدثهم، لا بل وتستشيرهم أحيانا، وكانوا يتجاوبون معها، ليس جنونا هذا، بل هو قمة الوعي المجنون.
     كانت يوما تجلس بين البشر، تستمع إلى أكاذيبهم، وتشاهد آثار ذنوبهم على وجوههم وأجسادهم، وأحيانا على وجوه وأجساد أبنائهم، وتشعر بالإعياء كلما انتصر الشر على الخير بين هؤلاء البشر، فجأة؛ شعرت بالاختناق، لم تعد قادرة على النظر إليهم أكثر، قررت العودة إلى عزلتها الجميلة.
     أمسكت قلمها لتبوح لورقها ببعض الأسرار، لكن القلم سقط من يدها، أمسكته دون تفكير واستعدت للبوح، إلا أن القلم سقط من جديد! نظرت إليه دون أن تمسسه، تذكرت أنه خط بالأمس حكاية مؤلمة، وأن قواه منهكة منها.
     تركته يوما ثم عادت لتجده على حاله السابق! تركته من جديد، عادت إليه بعد ثلاثة أيام لتخط قصة من أفكار متزاحمة في داخلها، إلا أنه أبى الكتابة!  أمسكته بقوة، رفعته حتى أصبح على تواز مع عينيها، سألته:
·        ما بالك يا قلمي تأبى الانقياد لي؟
·        أجابها: إنني حزين عليك يا سيدتي.
·        سألته: وما الذي يحزنك علي؟
·        أجابها: يحزنني شرود ذهنك، وتشتت فكرك، وانشغالك في الوهم، والأهم؛ بعدك عن كتاب الله.
·        سألته بضجر: من أذن لك أن تحكم علي بهذا الشكل؟!
·        أجابها بهدوء: كتاباتك سيدتي.
     تذكرت آخر ما خطته بهذا القلم الصريح، شعرت بالاختناق، نظرت إليه بحزن ثم رمته، وداست عليه حتى انكسر.
     بعد أن كسرته ندمت، وتذكرت كم أبحرت معه في لياليها الموحشة، تذكرت أنه لم يخذلها يوما، وأنه لولا حبه الصادق لامتنع عن مصارحتها، رفعته.. قبلته.. وطلبت العفو منه، لكنه بقي منكسرا، ألحت عليه بطلب العفو، حتى قال لها:
·        لست غاضبا عليك، بل على أخطائك المتكررة.
·        قالت له: ولكني أحتاج لعفوك.
·        قال لها: أنا لست غاضبا عليك، لكن نفسك لن تعفو عنك حتى تصلحي من حالك.. والآن؛ ارفعي بي إلى السماء وودعيني أيتها الشقية، فقد هرمت باكرا! ولعلي أعود إليك بحلة جديدة.
رفعت يدها التي أمسكته برفق، نظرت إليه بحنان، وقالت:
·        وداعا أيا مرآة قلبي، وداعا أيا ترجمان عقلي، وداعا أيا مبصرا بلا بصر.
حتى اختفى من يدها.. مسحت دموع الندم، تلفتت حولها، وجدت دفتر مذكراتها وقلمه المميز، فتحت الدفتر وأمسكت قلمه، واستعدت لتخط بعض ما يشغل فكرها، إلا أن الدفتر أغلق! استغربت لحال ممتلكاتها! أمسكته بيديها وسألته:
·        أأنت أيضا غاضب علي يا روحي المكتوبة؟
·        أجابها: وهل يحق لجماد أن يغضب على محييه! ولكني مشفق عليك يا روحي.. أخبريني أيا روح عمن ستكتبين هذه الليلة؟ هل ستكتبين عن محب خجول لم تهبيه سوى قلم ساذج وبعض الأوراق، ثم أغلقت من خلفك الباب وأحكمت إغلاقه، فلا أمل من بعدك ينير دربه.. أم عن حبيب مهاجر أغلق من خلفه الأبواب، لكنه ترك بصيص أمل لا يتمسك به سوى الحالمين الواهمين.. أم عن محب متيم فتحت له نصف باب، فتقلب بين ناري حبك وكرهك.. أم عن شخص اجتمعت فيه أحلامك، إلا حلم واحد أفسد الأحلام، شخص ترينه ولا ترينه، يراك ولا يراك، شخص تشتمين فيه رائحة بلادك، فتحلقين معه إلى الوطن المسلوب.. بحق السماء يا روحي؛ رتبي أفكارك، وتذكري أن العاطفة وحدها لا تطور من الفرد.. عودي إلى رشدك، انظري إلى الأمور بعين المنطق، اجمعي بين العقل والعاطفة، فاجتماعهما يعني الخلاص.
     سقط من يديها الدفتر، همس:
·        افتحيني الآن، وأخبريني بما تشائين..
     فتحته، أمسكت القلم، لكنها عجزت عن الكتابة، تأملت صفحة الدفتر البيضاء، انهمر من عينيها شلال من الدموع الممزوجة بكحلها الأخضر.
     استقرت الدموع على صفحة الدفتر لترسم هذه المرة أحرف الدعاء الذي دعا به موسى ربه في سورة طه من القرآن الكريم: ربي اشرح لي صدري، ويسر لي أمري.

No comments:

Post a Comment