من تدوينات مكتوب المرحوم - 2011
ارْحَل واجْعَل صُندوقِي رفيقَكَ، وحافِظَ أسْرارِك،
فبداخِلِه جديلةٌ من شَعري تُنعِشُها لمسةُ أنامِلِك،
وعِقدٌ من أيّام طُفولتي يتوهّجُ من نَظْرَة عَيْنَيك،
وفَرَاشَةٌ تَتُوقُ لِسَمَاع كَلِماتِك..
بهذه الكلمات المكتوبة ودّعته، فرحل وترك غابتها الغنّاء تذرفُ المدامع قهراً، وعذاباً، ولوعةً، رحل وخلّف وراءه أرملةً أرهقها البكاء على أطلالٍ سرابية! رحل بعد أن عاشا قصّة حبٍ مختلفةٍ عن القصص التي قرأت وسمعت عنها، قصّةً لا تعرف إن كانت تُصنّف بالفعل من قصص الحب! لكن ما تعرفه أنّها باتت محتلةً منهُ احتلالاً كاملاً، وأنّها سعيدةٌ بذلك الاحتلال، ما تعرفه أنّها لأول مرّة في حياتها تعشقُ التّبعية، تعشقُ أن تكون امرأةً تابعةً لرجل، لرجلٍ أقرب إلى المُنَزّلين في نظرها! ما تعرفه أنّ المرأة ليست بحاجةٍ لشيءٍ ممّا يطالبن به النساء، ليست بحاجةٍ لشيءٍ سوى لحُبٍ يُشعرها بأنوثتها.
رحل أو إن صحّ التعبير؛ هاجر إلى البلاد التي ستُقدره، إلى البلاد التي ستُشعره بإنسانيته، سيعثر على نفسه من جديد في تلك البلاد، لكنّه لن يعثر على أنثى كحبيبته، وهذا ما جعله يتردد بأمر الهجرة!
· قالت له الحبيبة: أنا اللّوحةُ التي تنتظرُ رسّامها، ارحل ولا تُطِل الغياب، ارحل ولا تُهمل لوحتك، فإهمالك يُتلِفها..
· قال لها: حتماً سيجيءُ اليوم الذي أُتَمّمُ فيه لوحتي التي سَأغيبُ عنها اليوم..
رحل بعد اطمئنانه أنّ روحها ستُرافقه في الصندوق الذي أهدتهُ إيّاه.
· أرسل لها بعد أسبوعٍ من تَغَرُّبِه: أخبريني عن حالكِ يا زهرةً فاحت عِطراً فأخذت بريحها الألباب؟
· ردّت عليه: آه يا مُهجتي.. ها أنا أسيرُ بزُحام الحياة، لكنّ قلبي لا يزالُ مُحتلاً منك، وسيبقى كذلك على الدوام..
· أرسل لها يوماً: اليوم شَمَمْتُ عِطر صندوقكِ الأخّاذ، ومرَّرْتُ يدِي على جديلتكِ الذهبيّة، فتمنّيتُ حينها أن أغفُوَ على أرضٍ تُشرقُ الشمسُ منها!
· فأرسلت له: في هذه اللحظة أشتاق لكَ أكثرَ من أيّ وقتٍ مضى! أبحثُ عن كلماتٍ أُعَبّرُ لكَ بها عن شيءٍ ممّا أشعرُ به، لكن عبثاً! فأحياناً يعجزُ اللّسانُ والقلمُ عن إيصالِ ما يَعْترينا من مشاعر..
اشْعُر إذاً بروحي وإحساسي يَعْبُرانِ هذه المساحات البعيدة، ويُبْلِغانِ شوقَهُما وأموراً أخرى..
· أرسل لها: حينما أسيرُ في طُرُقاتٍ غريبة، أتذكر وجوهاً تُزيل عن سمائي هذه الغربة المقيتة، ووجهُكِ يا حُلوتي من تلك الوجوه..
دَعِي ما يخرجُ منكِ يَصِلُني دون جواز سفرٍ، أو "فيزا" صعبة الإصدار! دعيهِ يصلُني ليُزيل وحشة غربتي ووحدتها القاسية..
· أرسلت له يوماً والدّنيا تَضِيقُ بها: أحتاجُكَ بقُوّةٍ الآن، أحتاجُ الارتماء على صدركَ الفَتِيّ، والبُكاء عليه طويلاً، أحتاجُ أن أُغمِض عينَيّ وأنا بين يديك، وأن أفتحهما وأنا على الحال نفسه..
مُهجتي؛ ضُمّ جديلتي إلى صدرك لعلّي أشعُر بحنانك، ثُمّ قَبّلها وقَبّل ما تشاء من صُوَري التي تُحِب..
ولا تَهْجُرني، فأنا أُنثى ضعيفة..
· ردّ عليها: آه يا غاليتي.. تعالي إليّ وارتمي على صدري، فقد قبّلتُ جديلتكِ ألفاً ولم أشبع!
أشتاقُكِ باستمرار يا فراشتي النّقية..
استمرّ التواصل بينهما من خلال الرسائل، فلهذا النّمط نكهةٌ خاصّة لطالما أحبّاها. كانا سعيدين بما هما عليه من موت، ويا لهُ من موت! موتٌ حلوٌ تارّةً، وعلقمٌ أطواراً أخرى، موتٌ سريعُ اللّحظات، بَطِيؤُها في مرّاتٍ لا معدودات! موتٌ يجعلهما يُحَلّقان إلى اللانهائية أحياناً، ويلقي بهما إلى الهاوية في أحيانٍ كُثُر!
إنّه الموت الحق على كلّ من يملكُ قلباً، الموت الذي يكتشفُ فيه الإنسان ذاته.
بموتهما ذاقا الحُلْوَ والعلقمَ معاً، حلّقا بعيداً، بعيداً، حتّى وصلا إلى نجمةٍ قذفت بهما من الأعلى، فافترقَ كلٌ منهُما في سِرْدابٍ مُظلمٍ؛ وحيداً، حزيناً، كئيباً.
· أرسل لها بعد فترةٍ من آخر تراسلٍ بينهما: يا طفلةً لا تَكبُرُ إلاّ مع الحبّ، ويا ضِحْكةً لا تُمَلّ..
الشّتاءُ الْجميلُ يَطرُقُ الأبواب، والألمُ يَفْتكُ بي، فمحبوبتي التي كنت أستمدُ الدِفء من أنفاسِها، غائبةٌ عنّي! عليّ مُصارحتكِ أنّ دمعي لا يفارقني كلّما ذكرتك..
حبيبتي؛ أُحقق في هذه البلاد إنجازاتٍ أفخرُ بها، وقد كوّنتُ علاقاتٍ جيّدةٍ في مُحيطي، لكنّي ومع ذلك أشعرُ بعزلةٍ كبيرة! عزلةٍ لا تزولُ إلاّ بحضورك..
فهل تُحققين رجائي يا فراشتي؟
· لَمْ يحصل على ردٍ منها! فأرسل لها: يُعذّبُني تجاهلكِ يا جميلتي!
· ردّت عليه بعد أيّام: آه يا مُهجتي كم تمنّيتُ أن أكون إحدى الغيمات التي ستَستقر عندها في تحليقكَ الطّويل، آه يا مُهجتي كم تمنّيتُ أن أكونَ مِحرابكَ الذي ستتوجهُ إليه في صلواتكَ الدُنْيَويّة..
آه لو أستطيعُ انتظارك أكثر، لَوَهبتُكَ حينها الأمل..
سنفترق، لكنّكَ ستبقى الحكايةَ الأجمل في حياتي..
· أرسل لها: الغاليةُ التي لا شريكَ لها في الغلا عندي، والعاشِقةُ التي أحبّت بنقاءٍ وطهارة، والكريمةُ التي لم تبخل عليّ بجديلتها الذّهبيّة..
تلقّيتُ رسالتكِ الأخيرة، فأعدتُ قراءتها مراراً وتكراراً! وكانت الدّهشةُ رفيقتي باستمرار!
كيف تُلَمّحينَ للفراق وألواني لم تكتمِل عليكِ؟!
· ردّت عليه: اعتبرني لوحةً بدأتَ برسمها فعجزت عن إتمامها لغموض فكرتها! فجاءَ رسّامٌ آخرٌ ليُنْهِهَا..
لكِنّكَ ستبقى الأساس، فأنتَ من بدأها وأحياها..
· ما هذه القسوةُ المُفرِطة؟! ما هذه القسوةُ المُفرِطة؟! هل صَدَقْتِ يوماً بمشاعركِ تُجاهي؟!
أنا لا أفهمكِ! وصلُكِ أدمنتُهُ، وفِراقُنا مُحالٌ أيّتُها الظالمة!
· أرسلت له: يكفيكَ قلبي وجديلةُ شَعري،
يكفيكَ رُوحي الهائمةُ على وجهِها لا تدري متى المُستقر!
يكفيكَ دمعي والهالةُ البشِعةُ التي ارتسمت حول عينَيّ،
يكفيكَ أنّكَ الرّجلُ الذي لا أخشاهُ أينما كنتُ معهُ..
ولكن يا مُهجتي؛ الموتُ يُحاصِرُني!
أجنِحتي اللّينة قُواها تخور، ورُوحي المُتَمرّدةُ عزيمتُها تَضعُف..
دمعُكَ غالٍ عليّ، وقلبُكَ الرّقيقُ أعتصِرُ ألماً لِفِراقِه..
لا تؤاخذني يا حبيبي، فأنا بأيّامي الأخيرة من هذه الحياة،
ووصِيّتي ألاّ تُحاول المجيء، فحالتي لا أملَ بِشِفائها..
لَمْ يستطِع منعَ نفسِهِ من البُكاء، كرِهَ هذه البلاد التي أبعدتهُ عن حبيبته وهي بِأَوجّ حاجتها إليه، شَعَرَ بأنانيته، وتمنَى لو تزول المسافات بينهما. حَجَزَ بأوّل طائرةٍ إلى الوطن، وصلَ بعد أسبوعٍ من آخر رسالةٍ لها.
بَحَثَ عنها وَسْطَ الأزهار، وبين الفراشات المُحلّقة، في قاعِ البِحار، وعلى أغصانِ الأشجار، لكنّهُ لم يجِدها! سألَ عنْها الطيور وقطرات النّدى، فلَم يُجيباه! ناداها بأعلى صوتِه، فلَم يسمعْ إلاّ صَداه! فوجّهَ رأسهُ إلى السّماءِ وقال:
السّلامُ على الرُّوحِ الطّيّبة،
السّلامُ على الحُبّ الطّاهر،
السّلامُ على القلبِ النَقِيّ الوَفِيّ،
السّلامُ على العينَينِ الآسرتَين، وعلى اليدَين الدّافئتَين،
السّلامُ على ألواني الّتي تركتُها عليكِ يا لوحتي الجميلة..
سأستمرُّ بِتَأمُلكِ يا مُعِذّبَتي، حتّى أجمعَ رُوحَيْنا على غَيْمةٍ واحدة..