Friday 6 July 2012

من أجل هؤلاء المعذبين




من تدوينات مكتوب المرحوم - 2010

     سقوط على مؤخرة الرأس، ينجم عنه انكسار بالجمجمة، ينقل المصاب إلى المشفى للنظر بحالته، هناكـ؛ يكتفون بغرزه مكان الجرح، دون النظر فيما وراء هذا النزيف!
     بعد ستة أشهر؛ يكتشف أهل المصاب أن هنالك عظما على دماغ ابنهم، وأنه كان لابد من رفع هذا العظم خلال ثمان وأربعين ساعة من وقوع الحادث!
     هكذا أصيب جعفر بإعاقة عقلية، وهو في الثالثة من عمره. إعاقة لم يستسلم لها ذووه، حيث استمروا برحلة علاج معه لمدة سبع سنوات، إلى أن اصطدموا بصخرة الواقع، وهي ألا أمل من شفائه.
     في تلكـ الفترة؛ لم يكن هنالكـ مراكز كثيرة لذوي الإعاقة، والمراكز التي كانت؛ لم تكن تقبل جعفر إلا لفترات قصيرة، وهذا بسبب نشاطه الزائد، وعدم انضباطه في قضاء معظم حاجاته الأساسية.
     وفي المنزل كان يؤثر وجوده الدائم على تربية اخوته، فقد "حول المنزل إلى مسرح من الفوضى"!
     من هنا قرر أبو جعفر إنشاء مركز للتربية الخاصة، حتى يخدم ابنه وأمثاله من المعذبين.
     وفي تاريخ 5/ 11/ 1980؛ قدم أبو جعفر طلبا إلى وزارة التنمية، لإنشاء المركز، ولكن طلبه قوبل بالاستغراب والاستنكار، حيث كان يريد أن ينشئ مركزا داخليا؛ ولكن هذا الأمر كان مستهجنا في تلكـ الفترة. حيث كان هنالكـ معارضة لفكرة عزل المعاق عن ذويه، "كانوا يعارضون؛ دون أن يفكروا قليلا بأن هؤلاء المعاقين قد يدمرون أسرهم في أحيان كثيرة"!
     استمرت زيارات أبو جعفر إلى الوزارة اثني عشر شهرا، وكان بكل زيارة له يعود بكثير من اليأس إلى المنزل، ولكن رؤيته ابنه، كانت تعيد إلى نفسه النشاط من جديد، فيعود ويطالب بما يريد.
     وفي تاريخ 24/ 11/ 1981؛ حصل أبو جعفر على ترخيص من وزارة التنمية للمباشرة في العمل، وكان ذلكـ بعد لقاء له مع سمو الأميرة بسمة، وكانت انطلاقته من ناعور، لأنه لم يجد في عمان من يؤجره منزلا "للمجانين"! بحسب اعتقاد الناس بتلك الفترة.
     بعد ذلكـ بدأت الوزارة تضغط على أبي جعفر كي يعين مديرا مؤهلا في التربية الخاصة، فقد كان أبو جعفر هو من يدير المؤسسة، وهو محام.
     وهكذا، تقدم أبو جعفر إلى الجامعة الأردنية طالبا دراسة التربية الخاصة، وفي عام 1988؛ حصل على درجة الماجستير في التربية الخاصة.
     وخلال دراسته للماجستير؛ أعد وقدم رسالة بعنوان، التعليم والتشريعات الخاصة بالمعاقين، وشكلت هذه الدراسة نواة لمشروع قانون رعاية المعاقين، الذي أقر كقانون دائم في شهر آذار من عام 1993، وقد عرف القانون المعاق، وركز على الجوانب التعليمية والتربوية، وعلى حق المعاق في العمل، وكذلك على حقه في المشاركة بصنع القرار. وقد حصل الأردن بعد هذا القانون على جائزة (روزفلت) للتميز في قضايا المعاقين.
     في عام 1983؛ انتقل مقر مؤسسة جعفر للتربية الخاصة إلى عمان الغربية، وتختص هذه المؤسسة بالإعاقة العقلية، ومما تقدمه من خدمات؛ التدريب على العناية الداخلية، والاستقلال الذاتي، وتعديل السلوكـ، وذلكـ كله ضمن خطط تربوية فردية تتناسب مع قدرات الطالب المعاق وحاجاته.
     حين طلبنا من أبي جعفر أن يصف لنا حالة ابنه بالتحديد، قال لنا: "جعفر، هو خليط من التوحد والإعاقة العقلية"، فما أصابه بدماغه؛ سبب له الإعاقة العقلية، وما يلاحظ عليه من تقوقعه في عالمه الخاص، يدل على التوحد.
     وحين سألنا أبا جعفر عما سيفعله فيما لو وضع بيده مليون دينار من أجل المؤسسة، أجابنا: سأصمم مركزا يستوعب على الأقل ألف طالب، وسيحوي هذا المركز قسما طبيا خاصا بالمعاقين، وبالأخص عيادة أسنان لهم، فليس كل طبيب قادرا على معالجة هذه الفئة من الناس، وسأعمل على إيجاد قسم للتأهيل المهني.
     هذا هو أبو جعفر، وذلكـ مخططه لتطوير مؤسسته التي فتحت من أجل ابنه جعفر وأمثاله من المعذبين.

سـيـدة ظـلـمـت مـرتـيـن





من تدوينات مكتوب المرحوم - 2010

     عندما شاركت بحملة تطوعية لزيارة مرضى السرطان وذويهم في الأردن، تخيلت بأنني سأزور أشخاصا قتلتهم الهموم والأوجاع، أشخاصا غير قادرين على مواجهة من حولهم.
      ولكن في زيارتنا لأم حمزة وعائلتها في إربد، وجدت امرأة صلبة كالحديد، في وجهها نور نادر وكأنه نور الإيمان، وفي عينيها الشهلاوتين بريق يوحي بالأمل، ولكن من يتأملهما بعمق، يجد الحزن والأسى على عمر رحل وهو يصارع من أجل البقاء، والحذر من التفاؤل بشدة من مستقبل غامض حتى لا يكون الإحباط أشد، فقد أحبطت مرات عدة.
      أم حمزة سيدة في الأربعينيات، اكتشفت إصابتها بالورم الخبيث في الثدي منذ عشرة أعوام، حينها تقبلت الأمر وكأنه انفلونزا، كان همها الوحيد أطفالها، ماذا سيفعلون من بعد رحيلها. ولكن أطفالها تقبلوا الأمر كذلك، بل زادت حنيتهم على والدتهم، وأصبحوا هم أطبائها وممرضيها. أما زوجها أبو حمزة، فقد وهب حياته لتلك السيدة العظيمة، حتى أن ذلك طغى على اجتماعيته.
      بدأت أم حمزة رحلة العلاج في حين اكتشافها للإصابة، واستمرت هذه الرحلة أربعة أعوام، بإحدى المستشفيات الحكومية في عمان، ثم قيل لها بأنها شفيت تماما بعد أن استؤصلت الخلايا السرطانية بالكامل.
      ولكن وبعد عام من خبر شفائها، شعرت بألم غريب في قدميها، ثم علمت بأن الخلايا السرطانية لم تستأصل بالكامل، وأنها انتشرت إلى أن وصلت إلى الكبد والعظام. يرى زوجها بأن ما حدث هنا كان نتيجة خطأ طبي.
      ثم دخلت أم حمزة في رحلة علاج جديدة، على أمل ألا تتكرر أخطاء الماضي، كانت هذه الرحلة في مركز مختص بهذا المرض، والمركز وكما تقول أم حمزة ممتاز بل وأكثر، ولكن الغريب أنها بهذا المركز علمت مؤخرا بأن الخلايا السرطانية انتقلت إلى الدماغ وتغلغلت به، هنا يحمل أبو حمزة ما حصل على الأطباء، فيقول بأنه لو كان هناك متابعة طبية ممتازة لاكتشفت تلك الخلايا في بدايات انتقالها، ليس الآن بعد أن فقدت أم حمزة كل أمل بالشفاء.
      هذه هي أم حمزة السيدة التي ظلمت مرتين في رحلتي علاج كما يقول زوجها، ويقول بأنها عظيمة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فلم يشعر يوما بضعفها، كانت دائما تقويه، كما أنها كانت تلتقي أمثالها من المصابين وتحثهم على الصبر، وقهر ذلك المرض الخبيث بقوة الإيمان.
      أم حمزة ليست حزينة على ما ابتليت به، فقد استطاعت أن تحافظ على قوتها، وأن تورث تلك القوة لأبنائها وزوجها، ولكنها تحزن على الأطفال المصابين الذين تفتحت أعينهم البريئة على حياة كلها أسى.  
      حين سألنا أم حمزة عن شيء ترغب بحصوله في المستقبل، أجابنا زوجها أبو حمزة، لو يوجد أكثر من فرع لمركز السرطان في المملكة، فنحن كمقيمين بإربد، كنا ولا زلنا نعاني من طول المسافة من مكان إقامتنا إلى عمان، وهذه المسافة كانت تقطع في كثير من الأحيان بشكل يومي، وكنت في بعض الأيام اضطر إلى المبيت في عمان، وأنا لا أعرف أحدا هناك.
     إذا لم لا يكون هناك أكثر من فرع للمركز في مدن المملكة المختلفة، أو على الأقل لم لا يتم التعاون بين المركز وبعض المستشفيات في المدن البعيدة عن عمان.
     وقال أبو حمزة أيضا بأنه يتمنى أن يقاضي كل من أخطأ بحق زوجته في العلاج، فهو الآن يفقدها.
     ولكن وفي حال انتهائه من تلك العبارة، نظرت إليه أم حمزة وكأنها تعاتبه على ما قال، فهي بالفعل سيدة عظيمة، إنها ومع التهاون الذي حصل لها في علاجها، إلا أنها لا تنظر إلى من عالجها ووقف بجانبها في محنتها إلا نظرة احترام وتقدير.

كطفلةٍ مُدلّلة





من تدوينات مكتوب المرحوم - 2012

      كلَّ مرّةٍ أسترجعُ فيها صورتَها في ذاكرتي، تتراءى إلى مُخيّلتي طفلةٌ مُدلّلةٌ، تلقّت أفضل تعليمٍ، وأتمَّ تهذيبٍ، بين أُسْرةٍ مُنفَتحةٍ على الدُّنيا، مُلتزمةٍ بتعاليمِ دينها ومبادئه، فأخرجت فتاةً قادرةً على مُواجَهة مَن حَولِها بأخلاقها الحَسَنة، وبفِكْرها السّليم، وبعلمِها الثّمين، وبأسلحةٍ أُخرى يطولُ ذكرُها، لكن أهمّها الرُّوح الطيّبة، والشّفافية المُفرطة.
  
     كلّما استذكرتُ الماضي الذي جَمَعني وإيّاها؛ تبيّن لي أنّها كانت كالبَلْسَم الذي يَشفي الجُروح، فلا تُشارك أحدَهُم المَجلس إلاّ وتبعثُ له السُّرور، وتنشُرُ في زوايا المكان الرّاحةَ والطَمأنينة.

     كيف لا؟! وهي صاحبةُ الابتسامةِ الأنقى، والرُّوح الأطهَر، والعينَينِ الأكثر براءة..!

     هل عرفتُمُوها؟؟ إنّها صديقتي التي تمتلكُ أجمل عينَيْن عسليّتين سارِحَتَين..! إنّها الصديقة التي لا يكُفّ كِلانا عن مُناكفة الآخر، في كل زمانٍ ومكان..!

قَهْـوَةٌ مُحَـلاَّةٌ




من تدوينات مكتوب المرحوم - 2011

اليَوْمَ سَأُضِيفُ نَكْهَةً حُلْوَةً إِلَيْكِ يَا قَهْوَتِي
وَإِلَى بَاقِي مَشْرُوبَاتِي

لَعَلِّي أَبْدَأُ عَقْداً جَدِيداً مَعَكِ أَيَّتُهَا الْحَيَاة!
فَمِنَ الْيَومْ؛ سَأَحْتَسِيكِ كَمَا أَحْتَسِي قَهَوَتِي الْجَدِيدَة

وَإِيَّاكِ أَنْ تَخْدَعِينِي يَوْماً وَتُذِيقِينِي مُرَّ الأَيَّامْ!
سِرْتُ مَعَكِ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ، فَلاَ تَتْرُكِينِي بِمُنْتَصَفِ الطَرِيق!

وَإِنْ شَعَرْتِ يَوْماً أَنَّ حَلاَكِ بِدَاخِلِي بَدَأَ يَخْتَفِي؛
فَاعْلَمِي أَنِّي بِحِمْيَةٍ مُؤَقَّتَةٍ مِنْ خِدَاعِك!

سَأَهْجُرُكِ أَيَّاماً، ثُمَّ سَأُرَاضِيكِ بِزِيَادَةِ حَبَّاتِ السُكَّرِ إِلَى قَهْوَتِي


أَعِيدُوا لِي رُوحِي



من تدوينات مكتوب المرحوم - 2011

مَتَى تَحِنُ لِقَبْضَتِي يَا قَلَمِي؟
وَمَتَى تَشْتَاقُونَ لِلَثْمَةِ يُسْرَايَ يَا أَوْرَاقِي؟

أَتُرَاكُمْ سَئِمْتُمُونِي، وَسَئِمْتُمْ قَبْلِيَ تَشَابُهَ أَبْطَالِي!
أَمْ أَنَّكُمْ نَفَرْتُم مِنْ فِكْرِيَ الأَفْلَاطُونِي
أَمْ أَنَّ مَرَضَاً أَصَابَكُم مِنَ اللَّافِكْرِ فِي كَلِمَاتِي
فَقَرَّرْتُم فَكَّ الْجَاذِبِيَّةِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنِي!

أَتُرَانِي فَارِغَةٌ إِلَى حَدٍ مِنْكُم يَحْرِمُنِي!
أَمْ أَنَّ تَحْلِيقِي مَعَ طَائِرِ مَغْرُورٍ أَشْعَرَكُم بِسَذَاجَتِي
وَأَثْبَتَ لَكُم سَطْحِيَّةَ تَطَلُعَاتِي!

أَمْ أَنَّ قُبُولِي بِنِصْفِ كَاْسٍ أَثَارَ جُنُونَكُم عَلَيَّ
فَآَثَرْتُمُ الاخْتِبَاءَ مِنِّي
كَيْ لاَ يَمْتَزِجَ جُنُونُ خَوْفِكُم بِجُنُونِ ظَمَئِي!

باللّه عَلَيْكُم يَا أَغْلَى مُمْتَلَكَاتِي
قِفُوا مَعِي وَلاَ تَهْجُرُونِي

باللّه عَلَيْكُم عُودُوا وَأَعِيدُوا رُوحِي إِلَى جَسَدِي
رُوحِي الَّتِي سُلِبَتْ بِالْكَلِمَاتِ مِنِّي!

بالله عَلَيْكُم يَا رُفَقَائِيَ الأَفْضَلُون، أَلاَّ تَنْسَوْنِي
فَأَنَا بِكُمْ وُجُودِي وَمِنْ دُونِكُمْ ضَيَاعِي
فَإِنْصَاتاً لاَ تَحْرِمُونِي، وَأَمَاناً امْنَحُونِي، وَحُباًّ هَبُونِي


مهد الطيبين



من تدوينات مكتوب المرحوم - 2010

تلكـ هي الدنيا، وذاك حال الطيبين
فلا تدمعي ياعين
وترقبي نبضا سيخفق في قلب الجنين
آه كم ظننا أنفسنا أقوياء
وكم غررنا بقدراتنا
آه كم تعجبنا لقدرة هؤلاء الشاكين لهمومهم
وكم سمعنا هموما وهموما
آه كم أخرجنا أشخاصا من ضيقهم
وكم رسمنا الابتسامة على وجوه البائسين
لم نعتقد يوما أننا سنحتاج لمن نشكو له هما
لمن يساعدنا في حزننا وكربنا، وفي الأنين
لمن يرسم الابتسامة لوجه ضحوك
لا شكـ، أضعنا من عمرنا الكثير والكثير
ونحن نستمع لأشخاص ونساعد آخرين
ثم ماذا؟ ماذا تركنا لأنفسنا؟
هل استطعنا أن نكسب صديقا أو اثنين؟
وهل جاءتنا الفرصة لنفضفض قليلا؟
لنحلم قليلا؟ كما الحالمين
تمضي الساعات ونحن نتأمل هاتفنا لعله يدق
لنكتشف أخيرا؛ ألا أحد سيكلف نفسه عناء السؤال
إنهم يذكروننا في الرخاء، وينسوننا وقت البلاء
لا، لا لن نرهق أعيننا باحثين في الهاتف عن اسم صديق
فجميعهم غارقون في أمور الحياة ومشغولون
أمعذورون؟ فما عادوا حتى لوقتهم يملكون؟!
كنا نتساءل منذ ساعات؛ عن الإنسان الطيب في هذه الحياة
إنه بلا شكـ، إنسان نادر بجميع الأحوال
أنحن من هؤلاء النادرين؟
أم أننا كما الآخرين؟
لا، لا تنكري أكثر يا روح
واعترفي وتبسمي
فأنت مهد الطيبين
أنت مهد الطيبين
ولكنكـ تتواضعين

مُقنّعة مع تأنيب الضّمير




من تدوينات مكتوب المرحوم - 2012

     استمرت مراقبَتْهُ لها أسابيعَ، ليَتيقّن أخيراً أنّها فتاة الأحلام. قرّر أن يُفاتحها بشأن الارتباط في اليوم الأخير من دورة اللغة الإنجليزية التي تجمعهُما.


     بالفعل هذا ما حدث، حينها؛ سألتهُ عمّا يدعو شابٍ بوسامته للتقرّب من فتاةٍ مثلها..!

     أجابها بتعجُّب: ألا تنظرين إلى وجهك في المرآة؟! تمتلكين عينَين ساحرتَين، بلونٍ فيروزيٍّ لم أرَهُ في عينيّ فتاةٍ قبلكِ! كما أنّ بشرتكِ نقيّة، ووجنَتَيكِ مُتورّدتَين، بالإضافة إلى شعركِ الحريري الذي يزيدُ من جاذبيتكِ.

     بحلَقَت في عيْنَيه والحيرةُ تملؤها، ثمّ تلفّتت حولها، وتساءلت في سرّها إن كانت هي المقصودة بهذا الوصف البَديع!

     قال لها مُستدركاً: قبل أن يلفتني جمالكِ؛ لفتتني شخصيتُكِ المُتّزنة، وذكاؤكِ المُفرط… أنتِ فتاةٌ استثنائية، فالجمالُ والأخلاقُ اجتمعا فيكِ.

     صرخَتْ في وجهه: لكنني مُخادعة…

     ابتعدتْ عنهُ دون أن تَنْبس بكلمة، تركتهُ بحِيرته، توجّهت إلى منزلها وشعور الحزن يتغلّبُ على الفرح داخلها، وَلَجت المنزل وألقت بحقيبتها أرضاً ثمّ توجّهت إلى مرآة غرفتها.

     نظرت إلى وجهِها، تناولت قطعةً مبلّلةً من القطن، مرّرتها على بشرتها الصّافية، ووجنَتَيها المُتورّدتَين، ثمّ اقتربت من المرآة أكثر، لتلتقط بإصبعَيْها عدسةً مُلوّنةً من إحدى عينَيْها، تناولت قطنةَ أخرى ومسحت كحلها الغزير، استمرت على هذا الحال حتى "أزالت القناع".

     نظرت إلى وجهها من جديد، ليبدو لها باهتاً، مكتظاً بالألوان التي لا يُوحّدها سوى كريم الأساس، أمّا عينَيها؛ فكانتا خافِتَتَيْن بلا رسم يُبرزهُما أو لَوْنٍ يُميّزهُما.

     من حقيبَتِها ارتفعَ صوتُ هاتفها النّقال، وبينما هي متوجّهة للإجابة؛ تعثّرت قدمَيها بسِلكٍ لآلة تَمْليسِ شَعرٍ، لولاها لمَا واجهت العالم الخارجي..!


لَعَلَّهُمَا يَلْتَقِيَانْ




من تدوينات مكتوب المرحوم - 2011

ارْحَل واجْعَل صُندوقِي رفيقَكَ، وحافِظَ أسْرارِك،
فبداخِلِه جديلةٌ من شَعري تُنعِشُها لمسةُ أنامِلِك،
وعِقدٌ من أيّام طُفولتي يتوهّجُ من نَظْرَة عَيْنَيك،
وفَرَاشَةٌ تَتُوقُ لِسَمَاع كَلِماتِك..

     بهذه الكلمات المكتوبة ودّعته، فرحل وترك غابتها الغنّاء تذرفُ المدامع قهراً، وعذاباً، ولوعةً، رحل وخلّف وراءه أرملةً أرهقها البكاء على أطلالٍ سرابية! رحل بعد أن عاشا قصّة حبٍ مختلفةٍ عن القصص التي قرأت وسمعت عنها، قصّةً لا تعرف إن كانت تُصنّف بالفعل من قصص الحب! لكن ما تعرفه أنّها باتت محتلةً منهُ احتلالاً كاملاً، وأنّها سعيدةٌ بذلك الاحتلال، ما تعرفه أنّها لأول مرّة في حياتها تعشقُ التّبعية، تعشقُ أن تكون امرأةً تابعةً لرجل، لرجلٍ أقرب إلى المُنَزّلين في نظرها! ما تعرفه أنّ المرأة ليست بحاجةٍ لشيءٍ ممّا يطالبن به النساء، ليست بحاجةٍ لشيءٍ سوى لحُبٍ يُشعرها بأنوثتها.

     رحل أو إن صحّ التعبير؛ هاجر إلى البلاد التي ستُقدره، إلى البلاد التي ستُشعره بإنسانيته، سيعثر على نفسه من جديد في تلك البلاد، لكنّه لن يعثر على أنثى كحبيبته، وهذا ما جعله يتردد بأمر الهجرة!

·        قالت له الحبيبة: أنا اللّوحةُ التي تنتظرُ رسّامها، ارحل ولا تُطِل الغياب، ارحل ولا تُهمل لوحتك، فإهمالك يُتلِفها..
·        قال لها: حتماً سيجيءُ اليوم الذي أُتَمّمُ فيه لوحتي التي سَأغيبُ عنها اليوم..

     رحل بعد اطمئنانه أنّ روحها ستُرافقه في الصندوق الذي أهدتهُ إيّاه.

·        أرسل لها بعد أسبوعٍ من تَغَرُّبِه: أخبريني عن حالكِ يا زهرةً فاحت عِطراً فأخذت بريحها الألباب؟
·        ردّت عليه: آه يا مُهجتي.. ها أنا أسيرُ بزُحام الحياة، لكنّ قلبي لا يزالُ مُحتلاً منك، وسيبقى كذلك على الدوام..
·        أرسل لها يوماً: اليوم شَمَمْتُ عِطر صندوقكِ الأخّاذ، ومرَّرْتُ يدِي على جديلتكِ الذهبيّة، فتمنّيتُ حينها أن أغفُوَ على أرضٍ تُشرقُ الشمسُ منها!
·        فأرسلت له: في هذه اللحظة أشتاق لكَ أكثرَ من أيّ وقتٍ مضى! أبحثُ عن كلماتٍ أُعَبّرُ لكَ بها عن شيءٍ ممّا أشعرُ به، لكن عبثاً! فأحياناً يعجزُ اللّسانُ والقلمُ عن إيصالِ ما يَعْترينا من مشاعر..
اشْعُر إذاً بروحي وإحساسي يَعْبُرانِ هذه المساحات البعيدة، ويُبْلِغانِ شوقَهُما وأموراً أخرى..
·        أرسل لها: حينما أسيرُ في طُرُقاتٍ غريبة، أتذكر وجوهاً تُزيل عن سمائي هذه الغربة المقيتة، ووجهُكِ يا حُلوتي من تلك الوجوه..
دَعِي ما يخرجُ منكِ يَصِلُني دون جواز سفرٍ، أو "فيزا" صعبة الإصدار! دعيهِ يصلُني ليُزيل وحشة غربتي ووحدتها القاسية..
·        أرسلت له يوماً والدّنيا تَضِيقُ بها: أحتاجُكَ بقُوّةٍ الآن، أحتاجُ الارتماء على صدركَ الفَتِيّ، والبُكاء عليه طويلاً، أحتاجُ أن أُغمِض عينَيّ وأنا بين يديك، وأن أفتحهما وأنا على الحال نفسه..
مُهجتي؛ ضُمّ جديلتي إلى صدرك لعلّي أشعُر بحنانك، ثُمّ قَبّلها وقَبّل ما تشاء من صُوَري التي تُحِب..
ولا تَهْجُرني، فأنا أُنثى ضعيفة..
·        ردّ عليها: آه يا غاليتي.. تعالي إليّ وارتمي على صدري، فقد قبّلتُ جديلتكِ ألفاً ولم أشبع!
أشتاقُكِ باستمرار يا فراشتي النّقية..

     استمرّ التواصل بينهما من خلال الرسائل، فلهذا النّمط نكهةٌ خاصّة لطالما أحبّاها. كانا سعيدين بما هما عليه من موت، ويا لهُ من موت! موتٌ حلوٌ تارّةً، وعلقمٌ أطواراً أخرى، موتٌ سريعُ اللّحظات، بَطِيؤُها في مرّاتٍ لا معدودات! موتٌ يجعلهما يُحَلّقان إلى اللانهائية أحياناً، ويلقي بهما إلى الهاوية في أحيانٍ كُثُر!

     إنّه الموت الحق على كلّ من يملكُ قلباً، الموت الذي يكتشفُ فيه الإنسان ذاته.

     بموتهما ذاقا الحُلْوَ والعلقمَ معاً، حلّقا بعيداً، بعيداً، حتّى وصلا إلى نجمةٍ قذفت بهما من الأعلى، فافترقَ كلٌ منهُما في سِرْدابٍ مُظلمٍ؛ وحيداً، حزيناً، كئيباً.

·        أرسل لها بعد فترةٍ من آخر تراسلٍ بينهما: يا طفلةً لا تَكبُرُ إلاّ مع الحبّ، ويا ضِحْكةً لا تُمَلّ..
الشّتاءُ الْجميلُ يَطرُقُ الأبواب، والألمُ يَفْتكُ بي، فمحبوبتي التي كنت أستمدُ الدِفء من أنفاسِها، غائبةٌ عنّي! عليّ مُصارحتكِ أنّ دمعي لا يفارقني كلّما ذكرتك..
حبيبتي؛ أُحقق في هذه البلاد إنجازاتٍ أفخرُ بها، وقد كوّنتُ علاقاتٍ جيّدةٍ في مُحيطي، لكنّي ومع ذلك أشعرُ بعزلةٍ كبيرة! عزلةٍ لا تزولُ إلاّ بحضورك..
فهل تُحققين رجائي يا فراشتي؟
·        لَمْ يحصل على ردٍ منها! فأرسل لها: يُعذّبُني تجاهلكِ يا جميلتي!
·        ردّت عليه بعد أيّام: آه يا مُهجتي كم تمنّيتُ أن أكون إحدى الغيمات التي ستَستقر عندها في تحليقكَ الطّويل، آه يا مُهجتي كم تمنّيتُ أن أكونَ مِحرابكَ الذي ستتوجهُ إليه في صلواتكَ الدُنْيَويّة..
آه لو أستطيعُ انتظارك أكثر، لَوَهبتُكَ حينها الأمل..
سنفترق، لكنّكَ ستبقى الحكايةَ الأجمل في حياتي..
·        أرسل لها: الغاليةُ التي لا شريكَ لها في الغلا عندي، والعاشِقةُ التي أحبّت بنقاءٍ وطهارة، والكريمةُ التي لم تبخل عليّ بجديلتها الذّهبيّة..
تلقّيتُ رسالتكِ الأخيرة، فأعدتُ قراءتها مراراً وتكراراً! وكانت الدّهشةُ رفيقتي باستمرار!
كيف تُلَمّحينَ للفراق وألواني لم تكتمِل عليكِ؟!
·        ردّت عليه: اعتبرني لوحةً بدأتَ برسمها فعجزت عن إتمامها لغموض فكرتها! فجاءَ رسّامٌ آخرٌ ليُنْهِهَا..
لكِنّكَ ستبقى الأساس، فأنتَ من بدأها وأحياها..
·        ما هذه القسوةُ المُفرِطة؟! ما هذه القسوةُ المُفرِطة؟! هل صَدَقْتِ يوماً بمشاعركِ تُجاهي؟!
أنا لا أفهمكِ! وصلُكِ أدمنتُهُ، وفِراقُنا مُحالٌ أيّتُها الظالمة!
·        أرسلت له: يكفيكَ قلبي وجديلةُ شَعري،
يكفيكَ رُوحي الهائمةُ على وجهِها لا تدري متى المُستقر!
يكفيكَ دمعي والهالةُ البشِعةُ التي ارتسمت حول عينَيّ،
يكفيكَ أنّكَ الرّجلُ الذي لا أخشاهُ أينما كنتُ معهُ..
ولكن يا مُهجتي؛ الموتُ يُحاصِرُني!
أجنِحتي اللّينة قُواها تخور، ورُوحي المُتَمرّدةُ عزيمتُها تَضعُف..
دمعُكَ غالٍ عليّ، وقلبُكَ الرّقيقُ أعتصِرُ ألماً لِفِراقِه..
لا تؤاخذني يا حبيبي، فأنا بأيّامي الأخيرة من هذه الحياة،
ووصِيّتي ألاّ تُحاول المجيء، فحالتي لا أملَ بِشِفائها..

     لَمْ يستطِع منعَ نفسِهِ من البُكاء، كرِهَ هذه البلاد التي أبعدتهُ عن حبيبته وهي بِأَوجّ حاجتها إليه، شَعَرَ بأنانيته، وتمنَى لو تزول المسافات بينهما. حَجَزَ بأوّل طائرةٍ إلى الوطن، وصلَ بعد أسبوعٍ من آخر رسالةٍ لها.

     بَحَثَ عنها وَسْطَ الأزهار، وبين الفراشات المُحلّقة، في قاعِ البِحار، وعلى أغصانِ الأشجار، لكنّهُ لم يجِدها! سألَ عنْها الطيور وقطرات النّدى، فلَم يُجيباه! ناداها بأعلى صوتِه، فلَم يسمعْ إلاّ صَداه! فوجّهَ رأسهُ إلى السّماءِ وقال:

السّلامُ على الرُّوحِ الطّيّبة،
السّلامُ على الحُبّ الطّاهر،
السّلامُ على القلبِ النَقِيّ الوَفِيّ،
السّلامُ على العينَينِ الآسرتَين، وعلى اليدَين الدّافئتَين،
السّلامُ على ألواني الّتي تركتُها عليكِ يا لوحتي الجميلة..
سأستمرُّ بِتَأمُلكِ يا مُعِذّبَتي، حتّى أجمعَ رُوحَيْنا على غَيْمةٍ واحدة..


صندوق محكم الإغلاق




من تدوينات مكتوب المرحوم - 2010

      أمامه تفقد قدرتها على التعبير، تبتر نصف الكلام المباح، وتكتم كل ما هو مرفوض بلغة العرف! تتمنى لو تبوح، لو تبثه كل مشاعرها، لو تعلمه أن روحها أَلِفَتْ روحه منذ اللقاء الأول.

     منذ رأته استذكرت وجها تحبه كثيرا، وسمعت صوتا من أعماقها يوصيها به، منذ رآها وعلم باسمها؛ صمت للحظات وكأنه استذكر أمرا ما! ثم سألها: هل أعرفكِ؟!

     لم يكن يعرفها، ولم تكن كذلك، ولكن؛ لعلّ روحيهما التقتا منذ زمن بعيد، وهاهي الأقدار تلعب لعبتها كي تجمع هاتين الروحين بزماننا هذا.

     جمعت عنه المعلومات التي ترشدها للتقرب منه، بالفعل اقتربت منه، وعرفته أكثر، بل كان كل ما تشاهده منه مألوفا لديها، فهي تعرفه منذ زمان بعيد.

     كانت تخبر أحبابها عنه، تذكره لهم باستمرار، وتعيد عليهم كلماته بشاعرية، حتى أصبحوا يسألونها عنه إن شغلها همٌ ما، ويُذَكرونها به في أيام حزنها.

     وهو كذلك؛ كان يبادلها المشاعر ذاتها، وكان يذكرها في مجالسه، ولكن؛ كان حديثه عنها أكثر نضجا ورزانة.

     نجحت بالاقتراب منه درجات، شعرت باهتمامه بها، وبمعاملته الخاصة، لكنها فشلت بالتعبير له عما بداخلها.

     كانت تتوقف دائما عند حد هي صنعته بتعاملها معه، خوفا من اختراق حاجز اعتقدت أنه صنعه. كما أنها كانت تخشى أن تفهم بشكل خاطئ، أو أن تلقى رفضا إن هي عبرت عن مشاعرها بصدق وعفوية. لذا كانت تقترب وتبتعد في آنٍ واحدٍ.

     كانت تعي طبيعة مشاعرها تجاهه، إنها أشبه بمشاعر طفلة محبة لوالدها، طفلة لا تشعر بالأمان سوى مع والدها، ذاك الرجل المختلف عن الرجال، كانت تشعر معه بحنان يماثل حنان والدها، واعتناء وخوف لا يقلان عما تلمسه منه.

     مما كان يلفت انتباهها إليه؛ حساسيته المفرطة تجاه الأمور، وحرصه الدائم على التنظيم، وإعطاءَه كل أمر ما يستحق، بل وأكثر، بالإضافة إلى إبداعه غير المنتهي.

     هو كذلك؛ كان ينظر إليها كطفلة لا تستحق سوى الدلال، طفلة على هيئة ملاك، طفلة تبتسم فيبتسم الكون لها.

     مما كان يلفت انتباهه إليها؛ هدوؤها المبالغ به، وصمتها التام! وكان يحب هاتين الصفتين بها، فهو يعرف أنها بصمتها تنصت لما حولها بتمعن، وبهدوئها تراقب ما يجري بعين الناقد، وأنها إن جاء الوقت المناسب للتعبير، فستعبر وبأفضل ما تملك من مفردات.

     ولعله تقمص منها قليلا من هدوئها، كما تقمصت منه بعضا من حساسيته.

     لكنه كان دائمُ الخوف عليها، فهي وبالرغم من ذكائها ومن قدرتها على تحمل المشاق، إلا أنها بحاجة لمن يعتني بها، أو بالأصح، لمن يتبناها، لمن يكون مرجعها كلما شعرت بالوهن.

     بالفعل كانت بحاجة لمن يدفعها للأمام باستمرار، وهو كان يدفعها بمنحها الحب والأمان والثقة.

     كان يوحي لها في كثير من الأحيان أنها يجب أن تتخلّى عن تلك السلاسل التي تقيدها، وأنها يجب أن تحلق في هذا الكون إلى أبعد نقطة ممكنة.

     كانت تتمنى لو تستطيع كسر قيودها تلك، فقط كي تمنحه الحب الذي منحها إيّاه، فقط كي تخبره أنه الرجل الثاني بحياتها، وأنها من خلاله فقط اكتشفت ذاتها، بل وأحبتها أكثر.

     لكنها عبثا تحاول! فالقيود تواجهها كيفما اتجهت! والخوف من فقدان إحساس جميل غريب بمجرد البوح يمنعها.

     قررت أخيرا أن تفتح صندوقا وأن تبثه كل مشاعرها الراقية، ثم أن تغلق الصندوق وتهديه إيّاه. فلا شيء سيعبر عنها كصندوقٍ مليءٍ مغلقٍ بإحكام، ولا شخصَ سَيَعِي قيمة ذاك الصندوق وسيجد مفتاحه كذاك الرجل العظيم.

     حوّلت مشاعرها المحكية إلى كلماتٍ مكتوبة، وأغلقت عليها الصندوق. لكنها بحيرةٍ من أمرها! هل تهديه الصندوق بشكل مباشر؟! أم تتسلل إلى مقرِهِ خفيةً وتضع الصندوق ثم تهرب؟! وجدت أن الحلّ الأخير أسهل لها، وهو ما فعلته.

     قررت الاختفاء بعد فعلتها تلك، فقد خشيت أن يُفسدَ عاملٌ ما تلك العلاقة الصحية التي جمعتهما، أو أن يُلَطخ نقاء مشاعرهما.


      فهي بمجتمعٍ لا يزالُ ضيّقَ أُفُقٍ بتقييم العلاقات بين الذكر والأنثى. 

أَيَـا عُـزْلَـةُ





من تدوينات مكتوب المرحوم - 2010

     مكان اعتادها واعتادته، أنارت ظلمته بوجودها الفتي فأنار فكرها بوحيه غير المنقطع، آنسته بفراغه الموحش فآنس وحدتها المفرطة.
     كانت تلجأ إليه بشكل يومي، فيوما نجدها تلتمس الأمان منه حين يمارس الزمان إرهابه عليها، ويوما نجدها تتقوقع فيه، وتغمر جسدها بعبراتها حين تشعر بغدر الأيام، ويوما تقرر دعوة بعض المقربين إلى مقرها ذاك، فنجدها تقرأ كتابا على نور خافت، أو تخط رسالة إلى عزيز بعيد، أو تسطر بقلمها الغالي بعض الحكايا الواقعية الخيالية، وما أكثر ما نجدها تسطر الحكايا.
     أصبح بينها وبين مقرها ذاك وما يحويه من كتب وأوراق وأقلام وشموع وأعواد كبريت؛ علاقة ألفة منقطعة النظير، حتى أنها استغنت بممتلكاتها تلك عن حياة البشر التي تمقت كثيرا من مظاهرها.
     بقي ثلة من البشر الذين ينيرون قلمها ليسطر أحلى الكلمات، أو أبشعها أحيانا، فتنتعش أوراقها بحكايات أو مذكرات قد تكون القاضية لها.
     ألفت ممتلكاتها حتى باتت تحدثهم، لا بل وتستشيرهم أحيانا، وكانوا يتجاوبون معها، ليس جنونا هذا، بل هو قمة الوعي المجنون.
     كانت يوما تجلس بين البشر، تستمع إلى أكاذيبهم، وتشاهد آثار ذنوبهم على وجوههم وأجسادهم، وأحيانا على وجوه وأجساد أبنائهم، وتشعر بالإعياء كلما انتصر الشر على الخير بين هؤلاء البشر، فجأة؛ شعرت بالاختناق، لم تعد قادرة على النظر إليهم أكثر، قررت العودة إلى عزلتها الجميلة.
     أمسكت قلمها لتبوح لورقها ببعض الأسرار، لكن القلم سقط من يدها، أمسكته دون تفكير واستعدت للبوح، إلا أن القلم سقط من جديد! نظرت إليه دون أن تمسسه، تذكرت أنه خط بالأمس حكاية مؤلمة، وأن قواه منهكة منها.
     تركته يوما ثم عادت لتجده على حاله السابق! تركته من جديد، عادت إليه بعد ثلاثة أيام لتخط قصة من أفكار متزاحمة في داخلها، إلا أنه أبى الكتابة!  أمسكته بقوة، رفعته حتى أصبح على تواز مع عينيها، سألته:
·        ما بالك يا قلمي تأبى الانقياد لي؟
·        أجابها: إنني حزين عليك يا سيدتي.
·        سألته: وما الذي يحزنك علي؟
·        أجابها: يحزنني شرود ذهنك، وتشتت فكرك، وانشغالك في الوهم، والأهم؛ بعدك عن كتاب الله.
·        سألته بضجر: من أذن لك أن تحكم علي بهذا الشكل؟!
·        أجابها بهدوء: كتاباتك سيدتي.
     تذكرت آخر ما خطته بهذا القلم الصريح، شعرت بالاختناق، نظرت إليه بحزن ثم رمته، وداست عليه حتى انكسر.
     بعد أن كسرته ندمت، وتذكرت كم أبحرت معه في لياليها الموحشة، تذكرت أنه لم يخذلها يوما، وأنه لولا حبه الصادق لامتنع عن مصارحتها، رفعته.. قبلته.. وطلبت العفو منه، لكنه بقي منكسرا، ألحت عليه بطلب العفو، حتى قال لها:
·        لست غاضبا عليك، بل على أخطائك المتكررة.
·        قالت له: ولكني أحتاج لعفوك.
·        قال لها: أنا لست غاضبا عليك، لكن نفسك لن تعفو عنك حتى تصلحي من حالك.. والآن؛ ارفعي بي إلى السماء وودعيني أيتها الشقية، فقد هرمت باكرا! ولعلي أعود إليك بحلة جديدة.
رفعت يدها التي أمسكته برفق، نظرت إليه بحنان، وقالت:
·        وداعا أيا مرآة قلبي، وداعا أيا ترجمان عقلي، وداعا أيا مبصرا بلا بصر.
حتى اختفى من يدها.. مسحت دموع الندم، تلفتت حولها، وجدت دفتر مذكراتها وقلمه المميز، فتحت الدفتر وأمسكت قلمه، واستعدت لتخط بعض ما يشغل فكرها، إلا أن الدفتر أغلق! استغربت لحال ممتلكاتها! أمسكته بيديها وسألته:
·        أأنت أيضا غاضب علي يا روحي المكتوبة؟
·        أجابها: وهل يحق لجماد أن يغضب على محييه! ولكني مشفق عليك يا روحي.. أخبريني أيا روح عمن ستكتبين هذه الليلة؟ هل ستكتبين عن محب خجول لم تهبيه سوى قلم ساذج وبعض الأوراق، ثم أغلقت من خلفك الباب وأحكمت إغلاقه، فلا أمل من بعدك ينير دربه.. أم عن حبيب مهاجر أغلق من خلفه الأبواب، لكنه ترك بصيص أمل لا يتمسك به سوى الحالمين الواهمين.. أم عن محب متيم فتحت له نصف باب، فتقلب بين ناري حبك وكرهك.. أم عن شخص اجتمعت فيه أحلامك، إلا حلم واحد أفسد الأحلام، شخص ترينه ولا ترينه، يراك ولا يراك، شخص تشتمين فيه رائحة بلادك، فتحلقين معه إلى الوطن المسلوب.. بحق السماء يا روحي؛ رتبي أفكارك، وتذكري أن العاطفة وحدها لا تطور من الفرد.. عودي إلى رشدك، انظري إلى الأمور بعين المنطق، اجمعي بين العقل والعاطفة، فاجتماعهما يعني الخلاص.
     سقط من يديها الدفتر، همس:
·        افتحيني الآن، وأخبريني بما تشائين..
     فتحته، أمسكت القلم، لكنها عجزت عن الكتابة، تأملت صفحة الدفتر البيضاء، انهمر من عينيها شلال من الدموع الممزوجة بكحلها الأخضر.
     استقرت الدموع على صفحة الدفتر لترسم هذه المرة أحرف الدعاء الذي دعا به موسى ربه في سورة طه من القرآن الكريم: ربي اشرح لي صدري، ويسر لي أمري.

الـحـب والـوفـاء




من تدوينات مكتوب المرحوم - 2009

     كانت تعتقد حين اختارته وحاربت الدنيا من أجله؛ أنها ستودع عالمها البائس، وأن كل أمانيها التي رافقتها منذ طفولتها ستتحقق.
     كانت تعتقد أنها وبزواجها منه؛ ستصبح تلك السيدة السعيدة، ليس بحبه فحسب وإنما بماله وعزه وجاهه، ربما كان ماله هو ما جعلها تتمسك به قبل حبه، وهو أيضا ما جعلها تترك حبيبها السابق.
     كانت تقول إن ما فعلته لا يعتبر خيانة، فهي تركته قبل أن يحدث أي ارتباط، حتى لو كان ذلك بعد ثلاث سنوات من الحب، فهي لا تريد شخصا يبقيها على حالها، ولو كان متيما بها، ولو كانت هي ذاتها متيمة به، إنها تريد شخصا ينتشلها من عالمها الفقير، ويزرعها في عالم مزهر، عالم تلبس به الحرير، تغرق به جسدها بأجود أنواع العطور، وتبعثر عليه الألماس.
     ظنت أن تلك الأمور كافية، ظنت أنها بالحرير والعطر والألماس ستحبه، كما ظنت في السابق أنه تزوجها لأنه يحبها، لم تكن تعلم أنها كانت ضحية تحد أحمق بينه وبين بعض من رفاقه.
     لقد كان شابا يمتلك ما يكفي من مظاهر الترف، كان كل من يراه يعرف أنه ولد وبفمه ملعقة من ذهب، وكان رفاقه دائما يعيبون عليه وعلى أمثاله عدم اختلاطهم مع طبقات اجتماعية أدنى منهم، وكان باستمرار ينفي صحة ما يقولون.
     وفي يوم لم تكن تعلم هي أنه سيغير مجرى حياتها للأبد، تحدوه رفاقه بأن يتزوج من فتاة هم اختاروها، وأعطوه عنوانها وبعض المعلومات عنها، وقبل التحدي حتى يثبت لهم عكس ما يقولون.
     وهكذا دخلت إلى عالمه، عالم هؤلاء الأشخاص الذين جعلوها تحلم لسنوات وسنوات بأن تصبح مثلهم ولو للحظة، دخلت مدهوشة بعظمة قصره وبعراقة ما بداخله، قررت منذ دخولها أنها ستستعمل جميع حواسها لتستمتع بكل ما فيه.
     لم تكن تفكر به ولا بأهلها، كل ما كان يشغل تفكيرها هو ذاك البزخ الواضح حتى في أدق تفاصيل القصر، بقيت هكذا ثلاثة أشهر، لم تتغير خلالها من الخارج فحسب، بل من الداخل أيضا، فقد نسيت ماضيها وكل ما فيه من أشخاص.
     ثم بدأت تستيقظ، أصبحت تنظر حولها، إنها تمتلك كل شيء، ولكن هنالك ما ينقصها! ينقصها حب طاهر تسقيه لشخص ما، ينقصها وفاؤها لماضيها الذي رمته مقابل المال، وأهم ما ينقصها؛ قلب رجل يسكنه قلب امرأة أخرى.

الذكرى الطيبة




من تدوينات مكتوب المرحوم - 2009

      أتأملها باستمرار، لا أعرف لماذا، إنها تمتلك عينين حائرتين تدلان على شخصية أكثر حيرة، إنها فتاة في منتصف العشرينيات، في عينيها الحائرتين بعض الجاذبية، ولكن ليس هذا ما يجعلني أطيل النظر إليها، فغير حيرة عينيها وجاذبيتهما الغريبة، كون هذه الجاذبية موجودة في عينين أرهقهما البكاء المصاحب للسهر- هذا ما استنتجته من تأملي لهما- إلا أنني حين أنظر إليهما أشعر وكأنني قد تغلغلت بداخل هذه الفتاة، وعرفت كل ما مر بها في هذه الحياة، وأيضا خمنت سبب حيرتها.
       بالفعل، فقد كانت عيناها باب دخول لمعرفة حياة شخص، حياته بكل ما مرت به من أفراح وأتراح، أو من أتراح وأتراح.
       إذا فقد أطلت النظر إليها، وفي لحظات وجدت نفسي أنتقل من عالم أعرفه إلى عالم آخر، عالم ليس ببعيد عن عالم اليوم بكثير، إنه يبعده بعقد ونصف العقد.
      الآن أصبحت أنا تلك الفتاة، فأنا الآن أرى العالم بعينيها، الآن أنا أبكي على فراق أمي، أمي التي تركتني وأنا لا أزال في عقدي الأول، من هذا اليوم بدأت أحزاني وحيرتي من هذه الدنيا تنمو معي، فاليوم فقدت أمي، فقدتها للأبد، وفقدت معها الكثير من الأشياء.
      فقدت تلك الضفيرة الذهبية التي كنت أتباهى بها أمام صديقاتي، لم أفقدها لأنني عاجزة عن عمل مثلها، وإنما لأن ضفيرتك يا أمي مصحوبة بلمسة حنان لم ولن أشعر بمثلها، قولي لي يا أمي من أين سآتي بلمسة الحنان هذه من بعد رحيلك؟ فقدت تلك القبلة المفعمة بالحب، تودعينني بها قبل ذهابي إلى المدرسة، فقدت الشطيرة التي كنت تعدينها لي كي أتناولها في المدرسة. في الفترة الأولى من فقدانك يا أمي أصبت بألم شديد في معدتي إثر نوبة برد قاسية، وكان هذا أمرا طبيعيا، فقد فقدت أمي التي كانت تأتي إلي وأنا نائمة وتطمئن على دفئي.
      في هذه الأثناء، سمعت صوتا أعادني لهذا العالم، سمعت صوت أم توبخ ابنتها بصوت مرتفع أمام أشخاص كثر، لا أعرف لماذا كانت توبخها، ولكنني لا أجد مبررا واحدا لما فعلته، فليست هذه هي طريقة التعامل مع الأبناء، وإن كان لا بد فليس من الضروري أن تكون أمام أحد.
     فكرت قليلا بهذه الفتاة، وتساءلت فيما لو ذهبت أمها، هل ستتذكر شيئا عنها غير معاملتها السيئة لها؟ وعدت لفتاتي الأولى، التي ذهبت أمها، ولكن أفعالها الطيبة بقيت في ذاكرتها، وغدا ستظهر هذه الأفعال على أبناء تلك الفتاة.