Sunday 9 June 2013

حلم مع وقف التنفيذ

11-12/3/2013
مروة العقاد- عمّان- الأردن


     الساعة التاسعة صباحاً، أستيقظ بتوقيتٍ لم أعتده من قبل، فاليوم هو يومي، اليوم سأحلّقُ بجنون وسأمارس عشقي.

     تسعة شهورٍ مضت وأنا أصارع خلالها، أصارع نفسي وأحارب من أجل إخمادها، فجميع الإشارات من حولي تخبرني أن حلمي لن يتحقق، وأن حياتي، بكل تفاصيلها، تسير على غير ما اشتهيت.

     اعتدنا أن تكون فترة تسعة شهورٍ كافيةٍ لخروج جنينٍ إلى عالم الأحياء، ليحصل بعد ذلك على كافة المهارات التي تؤهله على إكمال دربه في الحياة، وليتعلم قيمة التمسّك
بحلم والسعي من أجله. هذه الفترة كافية كذلك لدخول حلمٍ في عداد الأموات، خاصة في غابة الذئاب.

     الساعة العاشرة صباحاً، أجلس على أريكتي وأشرب قهوتي بصفوٍ ورخاء، وأتابع عبر المواقع الإلكترونية أخبار العالم، تحديداً أخبار منطقتي العربية، فيتعكّر صفوي حيناً، وتُستفزُ عروبتي أطواراً، وأوقنُ بعد كل خبرٍ أُنهيه أن الانحطاط هو سمة زمننا ومن كافة الجوانب.

     لم أمارس هذه الطقوس وما يرافقها من تأمّل منذ زمنٍ، فالعمل سرقني منها وأغرقني في دوّامة من التخبّط والإحباط، وأذابني بمزيجٍ الملل فيه يتفوّق على الترفيه، بعكس ما أخبروني!

     لأكن صادقة، عملي الذي غصتُ في عوالمه تسعة شهورٍ جميلٌ وممتعٌ بعض الشيء، لكنه بعيدٌ عن حلمي، وقريبٌ للأسف من واقعٍ عليّ التعايش معه والتأقلم مع مجرياته، وإلا فالعار سيحاصرني أينما توجّهت.

     الساعة الآن الحادية عشرة صباحاً، لا أزال في المنزل، غريبٌ هذا اليوم، أستذكر فيه عاماً مضى، بل أكثر بقليل، وتحاصر ذاكرتي وجوهٌ بائسة قابلتها بحكم عملي السابق في الصحافة، ونداء الإنسانية الذي يستمر باجتياحي بين فينةٍ وأخرى.

     بحثتُ خلال عملي في الصحافة عن الإنسان، وكتبتُ لأجله، كنتُ أزرعُ له لحظاتٍ من الأمل، سرعان ما يقتلعها الزمن، فيهمّ الإنسان المسكين بالاتصال بي طالباً النجدة، كان يجهلُ أنّي أسوأُ منه حالاً، وأنّي لستُ سوى وسيلةٍ توصل صوته على أمل أن تنتعش وتنهض قلوب البشر الخامدة.

     إلى الآن تصلني مكالمات ممّن كتبتُ لهم، والحقيقة أنّي بعد فترةٍ من إجابتهم أصبحتُ أتجنب الإجابة على اتصالاتهم، فقد سئمتُ الأمل اللحظي الذي كنتُ أمنحهم إيّاه!

     ضميري كان ولا يزال يؤنّبني من أجلهم، فهم من أرهقتهم الحياة، هم المعذّبون صيفاً وشتاءً، وهم بكل جدارةٍ أحقُ الوجود بالجنة الموعودة.

     تعرّفت قبل فترةٍ من خلال الإنترنت على جمعيةٍ تُعنى بأمثال هؤلاء المساكين، فتؤمّن لهم الحياة الكريمة وما يرافقها من علاجٍ ومستلزمات تعليمٍ وترفيه.

     وأخيراً، اليوم أنا في عطلةٍ من عملي، إذاً سأستطيع العودة ولو للحظات إلى حلم الطفولة، سأمارس من جديد بعض طقوس الصحافة. سأراسل هذه الجمعية وسأخبرها عمّن ضاقت بهم الحياة فأنكرتهم وألقت بهم إلى الهامش.


"تحية طيبة،

     أنا مروة، كنتُ قد هاتفتكُم سابقاً بخصوص عائلاتٍ عفيفةٍ جار عليها الزمن، وهي الآن بحاجةٍ لمد يد العون من أهل الخير.

     بالمرفق تجدون عناوين هذه العائلات وسبل الاتصال بها بالإضافة إلى معلوماتٍ جمعتها عنها بحكم زيارتي لها خلال عملي الصحفي.

دمتُم بعطاء"


     أرسلتُ إلى الجمعية تلك الرسالة، وأخيراً سأرفعُ عنّي بعض العبء وسأنعم بقسطٍ من الراحة!

     الساعة الآن الواحدة بعد الظهر، لا تزال حكاية شابٍ اسمه رامي تؤرق ليلي، إنه شاب التقيته قبل ثلاثة شهورٍ بنشاطٍ شبابي كنتُ جزءاً منه، فأخبرني بحكايته وطلب منّي التعاون معه حتى يعلو صوته، وليصبح هناك وعيٌ أكبر بأمثاله ممّن لا يزالون على مهد الطفولة.

     كان رامي يعتقد أنّي لا أزال أعمل في الصحافة، فأخبرته أني لم أستطع الإكمال حيث كنت، وأنّي أصبحتُ بعيدة عن عالم الصحافة، لكنّي وعدته بأن أنشر حكايته بشكلٍ ما.

     وعدته بذلك على الرغم من أنّي لم أعد صحفية! أجهل السبب الذي يدفعني إلى الآن للتعريف بنفسي على أنّي صحفية! أحياناً أعترفُ بالواقع المرير وأُلحق هذه الكلمة بعبارة "مع وقف التنفيذ".

     رامي باختصار شابٌ اصطدم على غفلةٍ بصخرةٍ قاسية أيقظته من حلمٍ جميلٍ اعتقده واقعاً لا خلاص منه. فقد اكتشف وهو في المرحلة الثانوية، أي قبل حوالي السبعة أعوامٍ، أنهُ لم يكن سوى طفلٍ مُتبنّى، وأنّ والديه الحقيقيين توفيّا منذُ نعومة أظفاره بسبب حرب حلّت في بلد هربا إليها حماية لأرواحهما.

     تبنّيتُ قضية رامي، وقرّرتُ أن تكون عملي الصحفي القادم، لأكشف حجم المعاناة التي يعانيها هو وأمثاله، ولأُظهر واقع التبنّي في الأردن، وأقترب أكثر من حياة المتبنّين التي يجهلها كثيرون.

     ها أنا أرتبُ أفكاري بشأنِ حكاية رامي، وأهمُّ برسم سيناريو معقولٍ لكيفيةِ تناولِ قضيته. يجب أن أتقدم خطوة بحكايته، فأنا على موعدٍ معه ومع مصوّر سيساعدني بذلك عند الساعة السادسة مساءً.

     الساعة الآن الثالثة بعد الظهر، إنه وقت الغداء، وأخيراً سأجتمع مع أفراد عائلتي وسأتناول وجبتي معهم، كم أفتقد هذا الشعور!

     عائلتي لم تقتنع بسبب عطلتي الغريبة التي نعمتُ بها اليوم، أخبرتهم أنّي بحاجة لقسطٍ من الراحة، ولإكمال بعض أفكاري الصحفية.

     هم وبعض أصدقائي لا يفهمون سبب تعلّقي بالصحافة، ويعتقدون أنّي أبالغ بحبّي لها، أو أنّي أبحث عن الشهرة والتفرّد من خلالها، ويحثّوني باستمرار على نسيانها والاهتمام أكثر بعملي الحالي وبحياتي الاجتماعية. لأكون مُنصفة، ألقى التشجيع منهم بكل مغامراتي الصحفية، لكنّي لا أشعر أنهم يشجّعوني من باب الاقتناع بما أقوم به، بل من باب الحب والاهتمام المجبورين على منحي إيّاه، فعلى الدوام تسألني عيونهم عن جدوى ما أقوم به؟!

     لم أحصل يوماً على مبلغٍ مادي مقابل ما كتبته للصحافة، فالمساحة التي سُمح لي أن أكتب فيها في إحدى الصحف الأردنية كانت من باب التكرّم "فأنا لا أزال أحبو على أول الدرب"، والمواقع الإلكترونية التي راسلتها، كانت تستقبل كتاباتي من باب التطوّع لا أكثر! بحثتُ كثيراً عن عملٍ في الصحافة أجني مقابله المال، بعض المال، لا أريد سوى ما أقيت به يومي، لكن عبثاً.

     لذا؛ نصحني المقربون مني باللجوء إلى عملٍ بعيدٍ عن الصحافة قريبٍ منها في ذات الوقت، وهذا ما أنا عليه الآن.

     حين تخرجتُ من جامعتي بتخصص الصحافة والإعلام قبل عامين، اعتقدتُ أنّي سأصبحُ صحفية تُشارُ لها البنان بأيام، لم أكن أدري أنّ مساري بأكمله سيختلف وبخطواتٍ منّي!

     اعتقدتُ كذلك أنّي سأستمر بالكتابة للصحافة في عملي الجديد، لكن الوقت سرقني فما عدتُ قادرة، حتى أنّي انسحبتُ مؤخراً من إحدى الدورات في الصحافة الاستقصائية لعدم توفّر الوقت الكافي لدي، الأمر الذي لا يزال يحزنني إلى الآن، فالانسحاب أمرٌ لم أعتده من قبل.

     الساعة الآن الخامسة بعد العصر، كانت وجبة غداءٍ لذيذة، ألحقتها باسترخاءٍ لم أفعله منذ زمن، وبأحاديث جانبية مع أفراد عائلتي. والآن سأجمعُ أوراقي وسأستعدُ للقاء رامي والمصوّر.

     إنها الساعة السادسة مساءً، ها أنا ألجُ مقهى اتفقتُ على لقائهما فيه، وأجولُ بنظري بحثاً عنهما، لوّح لي أحدهما بيده، فتوجّهتُ إليهما على الفور.

     مضت ساعتين أو أكثر قليلاً على جلوسي معهما، اتفقنا خلالهما على خطة عمل، وعلى سيناريو أوّلي للتقرير. كان رامي متحمّساً لقضيّته، ومع ذلك كان متخوّفاً من عدم إبصارها للنور، بطئي في العمل ما جعله يشعر بذلك. اعتذرتُ له وشرحتُ ظروف عملي التي تسيطر على كل وقتي، ووعدته أنّي سأخصص هذا الأسبوع له فقط.

     كنتُ أتعاملُ معهُ كأخٍ رعايتُه واجبة عليّ، وهذا ما كنتُ أنهجه في جميع لقاءاتي الصحفية سابقاً، أقصدُ بالطبع لقاءاتي الإنسانية فقط، ولا أدري إن كان ما أفعله صحيحاً أم لا، فحيناً كنتُ أضغطُ على نفسي بسبب لطفي، وحيناً آخر كنتُ أقع ببعض المشاكل جراء هذا التعامل.

     الساعة الآن التاسعة مساءً، ها أنا أعودُ إلى المنزل، مُثقلة بالأفكار، ممتلئة بالحماس، ومع ذلك سأجلس مع عائلتي فمنذ زمنٍ لم أجلس معهم برخاءٍ وصفاء.

     الساعة الآن الحادية عشرة مساءً، سأدوّن الأفكار الجديدة التي توصّلت إليها بجلستي مع رامي والمصوّر وسأبني عليها لأخرج بنصٍ جيدٍ للقضية.

     الساعة الآن الواحدة بعد منتصف الليل، سأغوص قليلاً في عالم الفيسبوك، وسأتواصل مع أشخاصٍ لم أحدثهم منذ فترةٍ بسبب انشغالي، ثم سأخلد في نومٍ عميقٍ يملؤني طاقة لغدٍ ليس كاليوم، فبالغد؛ سأعودُ إلى عملي وإلى ما يرافقه من روتين، وسأحنُّ إلى حياة مليئة بالتشويق وبالفخر بكل إنجازٍ يخدم الإنسان. تصبحون على إنسانية.

     الساعة الآن الثامنة وعشرين دقيقة، صباحكم صبرٌ وأملٌ إن وُجدا. ها أنا أُعدُ نفسي للعمل مودّعةً يوم أمس الاستثنائي.

2 comments:

  1. جميل جداً ما سطرتِ ...

    أكان كلامك واقعياً أم لا؟

    في كل الأحوال وصلني الإحساس ... الحلم ... كم هو مؤلم عندما يصدم على سياج الواقع ...

    المهم

    انك تستطيعين بين الحين والآخر أن تستشعريه ... أن تغوصي فيه ... فهذا أفضل من أن تخنقيه ...

    تقبلي مروري

    ReplyDelete
  2. أهلاً بكِ زينب في مدونتي :)

    نعم، هذه السطور واقعية 100% وهي تمثل أحد أيامي الذي خصصته فقط لكتابتها، لأني كنت بحاجة للفضفضة ولم أجد وسيلة أفضل من الكتابة.

    أوافقك الرأي في عبارتك الأخيرة، وهذا ما أعمل عليه حالياً.

    دمتِ بود..

    ReplyDelete