تمضي مناسبات وتأتي مناسبات، وتبقى الهدايا بطلة كل تلك اللحظات؛
لوحات تحاكي الطبيعة لمنزل جديد، دمية شقراء لطفلة في عيد ميلادها، سيارة بجهاز
تحكّم عن بعد لطالب تخرّج من المرحلة الابتدائية، أموال قد تذهب هباءً لطالب تخرّج
الآن من الجامعة، زهور ستذبل بعد أيام لحبيب نجا بأعجوبة من الموت، خاتم من الذهب
تشارك في ثمنه عدد من الأصدقاء لفتاة في ثوبها الأبيض..
ولكن،
ألم تصبح هدايانا روتينية حدّ الملل؟ أليست مكلفة في كثير من الأحيان؟ سؤال وجّهه
لي صديق، فاستفز مشاعري وأعادني بالذاكرة إلى مناسبات الأهل والأصدقاء وما حملته
من هدايا اجتهدت وتكلّفت بها، سألت نفسي "هل حقاً كانت كل هداياي تلك مملة
واعتيادية؟ هل ملأها الغبار بعد أن ركنها أصحابها إلى رفوف مكتباتهم؟".
رفوف المكتبات
وكأن ذلك الصديق سمعني، فعلّق بصوت مرتفع "بأفضل الأحوال ستُحفظ هداياكِ تلك في صناديق كرتونية وستُخزّن تحت الأسرّة، وإن كنتِ محظوظة، ستمتلئ بها رفوف مكتباتهم الخاوية، هذا إن وُجدت، وإن وُجدت فإنها فكرة جميلة لتغيّري نمط هداياكِ، وإن لم توجد، فهذه فكرة أجمل لتصنعي لهم عادة جديدة".
وكأن ذلك الصديق سمعني، فعلّق بصوت مرتفع "بأفضل الأحوال ستُحفظ هداياكِ تلك في صناديق كرتونية وستُخزّن تحت الأسرّة، وإن كنتِ محظوظة، ستمتلئ بها رفوف مكتباتهم الخاوية، هذا إن وُجدت، وإن وُجدت فإنها فكرة جميلة لتغيّري نمط هداياكِ، وإن لم توجد، فهذه فكرة أجمل لتصنعي لهم عادة جديدة".
نواة مكتبة
"منذ هذه اللحظة لن أهدي إلا كتاباً".. كان هذا قرار الصديق الذي
سيبدأ به عامه الجديد، العادة التي سينتهجها، قال لي "تخيّلي لو أصبحنا مجتمع
معظم هداياه كتب! كيف سيكون حالنا؟ بالتأكيد سنصبح أفضل بكثير"، لم أكن أريد
إحباطه، لكنني فكّرت بواقعية فقلت له "قليلون من سيقرؤون كتبك، وكثيرون من
سيركنونها كما ركنوا هداياي إلى رفوف مكتباتهم".. لم يُطل التفكير، علّق على
الفور "لا بأس في ذلك، يسعدني أن أصنع في كل منزل أعرفه نواة مكتبة.. سأرسّخ
لدى عائلتي وأصدقائي مفهوم القراءة، سأستفزهم بكثرة الكتب من حولهم، بالتأكيد
ستجذب أحداً إليها".
أقنعني،
اتفقت وإياه على انتهاج هذه العادة منذ بداية العام الجديد، هذه العادة التي
ستُفضي إلى سعادة مطلقة في حال تعمّمت وأصبحت نهجاً لمجتمع بأكمله، سنعود
"أمة اقرأ"، سنصبح أمة مليئة بشتى ألوان المعرفة.
سائق التكسي ومكتبته المتنقلة
هل سبق أن زيّنت سيارتك بباقة من الكتب؟ لم أرَ أحدهم يفعلها من قبل،
إلا سائق تكسي فاجأتني سيارته بجمالها واختلافها! أشبعتني برائحة الورق الجميلة!
على زجاجها الأمامي تنعكس عناوين الكتب الجذابة ومن الخلف تجد رفاً يحمل كماً
هائلاً من العلم، أثارت هذه المكتبة المتنقلة الفضول في داخلي، سألت سائق التكسي
السبعيني بعدم تصديق "هل قرأت كل هذه الكتب؟" ليجيبني على الفور وبكل
ثقة وفخر "بالتأكيد.. إنني أقضي وقت فراغي وانتظاري بقراءتها".
قال لي إنه لم يتمكن من إكمال دراسته الجامعية، لكنه أكّد أنه يمتلك
علماً يشمل معظم التخصصات الجامعية في الأردن، فهو يطلب من كل طالب علم يرافقه
الطريق أن يهديه كتاباً من تخصصه. قراءاته المكثفة والانتقائية لم تزده علماً
وحكمة فحسب، بل مكّنته من الانتصار في قضية رُفعت عليه في المحكمة، حينها لم يلجأ
لمحامٍ ينوب ويدافع عنه، بل لكتاب في القانون يمدّه بكافة المعلومات التي سترشده
وتوجّهه أمام القضاء.
في
نهاية طريقي معه، طلب منّي أن أهديه كتاباً أملكه، شعرت بالسعادة، فها أنا سأبدأ
بتطبيق عادة إهداء الكتب قبل الوقت المتفق عليه، تركته ينتظرني أمام منزلي وذهبت
مسرعة إلى غرفتي، نفضت الغبار عن كتابين اجتهدت باختيارهما وأهديتهما له، رأيت
السعادة واضحاً على محياه ولمستها تكبر في قلبي.
وصفة لمتابعة الحياة
طال انتظار سائق التكسي وأنا أبحث له عن كتاب يليق به، كنت أبحث
بعناية شديدة، بناءً على عمره، وعناوين كتبه التي قرأتها في سيارته، كنت أستذكر
الأحاديث السريعة التي سمعتها منه خلال الطريق وأفكر فيما قد يضيف له، حتى وجدت
مراده. كان لا بد من هذا الجهد، من دراسة حالة الشخص والبحث عن كتاب يلائم فِكره
ويناسب حياته.
قبل
أيام، نبّهتني صديقة إلى فكرة عظيمة، لو وُجدت لحلّت كثيراً من مشاكلنا، قالت لي
"ماذا لو كان هنالك مكان كالصيدلية، يسمع احتياجاتنا، يشعر بألمنا، يلتفت لما
ينقصنا، فيبحث عن كتاب ويصفه لنا ليكون العون والسند". فقلت لها "ماذا
لو أصبحنا نحن تلك الصيدليات؟ ماذا لو طبّقنا فكرة تهادي الكتب في كل المناسبات
القادمة؟ حينها سنكون البلسم الذي سيشفي أرواح وعقول من نحب".
*تجدون التدوينة كذلك
على مدونات الجزيرة: