Monday 26 November 2012

هذيان على هامش الدمع




     هي كذلك أرهقها الضغط، وأخمد طموحها، وأحال حياتها إلى كسلٍ ومللٍ وخمول، لكنها لم تكُن تُلقي بالاً لذلك، كانت سعيدة بما تُقدّم، فخورة بما تُنجز، متعطّشة لتنهل مزيداً من المجهول، ممنّيةً نفسها بتحسين الأحوال، وبتنظيم الأمور.

     كان الوقت قد حان بالنسبة لها لتبدأ حياةً جديدة، مليئةً بالإنجاز والاعتماد على الذات، وهذا ما حدث بالفعل، فالاعتماد تم والإنجاز كذلك، إلا أنه لم يكن إنجازاً كافياً بالنسبة لتطلعاتها، فقد اقتصر على أمرٍ واحد، لم تكُن تفكر به في السابق، ومع ذلك صمتت، وقررت الإكمال، وأسرّت لنفسها تواسيها "لا بأس يا روحي فلا تزالين في مقتبل العمر، والأبواب ستفتح أمامك عما قريب.. اصبري ستسعدي وستلمسي بأناملك المنال".

     لكن استخفاف بعضهم بما تُقدّم، وعدم اعترافهم بما تُنجز كانا كصفعةٍ تُوجّه لها! فهل هذا جزاء الإحسان؟! هل يُكلّفها صمتها وعدم تذمرها كل ذاك الإنكار؟! كانت تعتقد أن الصمت واحتساب الأجر هما ما ينفعان، لكن؛ يبدو أن معادلة الكون مختلفة، وأن عليها استيعابها أو فعليها السلام.

     جميعهم في ذاك اليوم اجتمعوا ليعترضوا، وهي كذلك كانت معهم، تحدثوا كثيراً، اتفقت معهم سراً في معظم أقوالهم، وكانت لها إضافات، حاولت الإلقاء بها في تلك اللحظات، لكن روحها "للمرة الألف" تؤثر الصمت على الكلام! ها هو صمتها يخونها من جديد! وبّخته بسرّها "تباً لك أيها الصمت.. متى تكفّني؟!" لكنه بقي صامتاً كعادته.

     لطالما نقلت رسائل غيرها، من أحزانٍ وشكاوى، من تمنّياتٍ وآمال، من اعتراضاتٍ واقتراحات، لكنها فاشلةٌ بنقل آرائها، أو بالإبلاغ عن أمنياتها وحاجاتها.

     لا تملك مع الغير سوى صمتٍ ودمع، وعجزٍ عن الإفصاح عما يختلج الصدر من أحزانٍ أو حتى أفراح! 

Thursday 8 November 2012

عدم وجود



هي لحظة تنعدم فيها حياة أحد المخلوقين،

وتبهت بها أرواح الشاهدين والسامعين،

لحظة لا مفرّ منها ولا توقيت لها،

تحضر فجأة،

تخطف أحدهم بقوّة

ثم تنتقل لآخر

ظنّ هذا المساء

أنه على موعدٍ مع الحياة!


قاسٍ أنت أيها الشبح،

تأتي على غفلة

فتغتال أحلام الأحبّة

وتمحو البهجة من الأفئدة

وتُفرّق الأعزّة

لتزرع الأسى والكآبة،


تأتي وتنتشلهم من الوجود

وتُلقي بهم في العدم

دون أن تفكر قليلاً

بما رسموه لمستقبلهم

أو ما رسمه لهم حاضرهم!


متى تكفّنا أيها الشبح البغيض؟!

أم أنك القدر والمصير

ونحن عليك قاسون

ومع ذلك إليك منتهون


هلاّ منحتنا أيها الشبح وقتاً؟
حتى نُرتّب أوراقنا 
ونُودّع أحبابنا
ونُلملم أغراضنا

Friday 2 November 2012

عذراً أمريكا فقلبي الصغير لا يحتمل


     سأُخربش سطراً ثم سأبدأ بالمفيد، فالموضوع أوضح وأبسط من تخصيص المقدمات كالمعتاد.. انتهى السطر وابتدأ الواقع والمنطق.

     "قلوبنا ليست مع أمريكا ومع ذلك ليست ضدها" قبل الشرح سأطرح سؤالاً وسأجيب عليه "لو كنتُ في مُصيبةٍ وطلبتُ العون من جاري الغارق في المصائب.. فهل سيكترثُ لأمري؟" الإجابة بكل واقعية "لا". سؤال آخر "لو طلب سكان إحدى العمارات في الشارع المجاور المساعدة من سكّان عمارةٍ تحترق للتخلص من لص الليل القابع في عمارتهم.. فهل سيهبّ سكان العمارة المحترقة لنجدتهم؟!" الإجابة المنطقية والواقعية كذلك "لا".


     واقع ومنطق ولا عتب على أحد، فلكلٍّ منّا انشغالاته وهمومه، لن يلتفت أحد لغيره إلاّ إن كان وضعه الاجتماعي والنفسي والاقتصادي و و و.. إلى ما لا نهاية مستقر ومعقول.


     إذاً؛ من غير الواقعي أو المنطقي أن يلتفت أحدنا إلى مُصيبة غيره إن كان في مُصيبة أعظم، ومن غير الواقعي أو المنطقي كذلك، أن نكون غارقين في المصائب، ويطلب منّا أحدهم "تقوية بعدنا الإنساني لنعرف كيف نتعامل مع الآخرين"، إلاّ إن كان يعتقد أن المدينة الفاضلة حقيقة لها وجود! فأثر الإنسانية يظهر حين نشعر بإنسانيتنا أولاً.

     لذا؛ لا عتب ولا عجب من أي عربي لم يتألم أو يتعاطف مع متضرّري إعصار ساندي، حكومةً وشعباً، وليخالفني من يشاء، سأصرّ على الوقوف إلى صف هذا العربي المسكين، الذي امتلأ قلبه حزناً وضاع صوته من كثر الأنين.

     كيف لا يئنُّ والألم والمرض والوجع تمكّنوا من محيطه بالكامل؟! بالمقابل لا أحد يحرك ساكناً، بل على العكس، الحكومة الأمريكية تضاعف بأصابعها الخفيّة منها والظاهرة حجم الدمار في محيطنا العربي، والشعب الأمريكي صامت لا يعلّق، والحجة "التكتيم الإعلامي"، فلمَ لا نسمح للعربي أن يتخذ حجةً واهيةً كهذه ويكتفي بمتابعة مصيبتهم دون أن تتأثر حياته أو نفسيته المصابة أصلاً؟! تلك النفسية التي تحتاج عصوراً حتى تبرأ من الأعاصير التي داهمتها، باختلاف إعصار ساندي الذي لن يتطلب الشفاء من آثاره النفسية والبيئية أكثر من أسابيع، أو شهوراً بأكثر تقدير، فالهدوء وراحة البال تعم تلك البلاد بشكل يجعل ساكنيها يفكرون بمصائبهم المتوقعة وبكيفية حلّها، على عكس حال بلادنا، التي يفكر ساكنيها بالوقت الذي ستتوقف فيه مصائبهم كي ينعموا بقليلٍ من الهناء والسلام، ثم إن إعصار ساندي من فعل الطبيعة الغاضبة، التي لا يستطيع أحدنا الوقوف في وجهها، وليس من تدبير البشر كما يحدث في محيطنا!

     هذا لا يعني الشماتة بما يحدث لهم، أو تمني المزيد من الدمار، فهذه ليست من شيم العربي، لكنه باختصار غير قادرٍ على إيجاد مساحة لهؤلاء في قلبه، فقلبه مكتظٌ بمصائب وطنه العربي المكلوم، قلبه مع وطنه الذي لا يقف إلى جانبه أحد، وطنه الذي يناضل لينال جرعةً من حياةٍ كريمة.

     حين تبرأ جروح وطنه وتنتعش ظروفه سيكون حينها قادراً على وهب جزء من عاطفته إلى غيره من المتضررين، هؤلاء الذين يمتلكون من الحظ الكثير بعكس حال العربي الحزين المشغول بأن يكون أو لا يكون. 





     

Monday 29 October 2012

كتاب وطن من كلمات إرثٌ للأجيال القادمة


     مضى أكثر من ثلاثة أشهر على قراءتي لكتاب "وطن من كلمات... رحلة لاجئ من المخيّم إلى الصفحة الأولى" الذي يُعد السيرة الذاتية للصحفي الفلسطيني عبدالباري عطوان، وعلى الرغم من مرور تلك الفترة؛ إلا أن صوتاً خفياً بقي يخبرني بضرورة إبقاء هذا الكتاب جانب سريري، حيث اعتدتُ وضع الكتب التي لم أُنهها بعد أو التي أرغب بمعاودة قراءتها، وبالفعل؛ عدتُ إليه قبل أيام لأراجع بعضاً مما قرأته، فأستحضر التاريخ من جديد، وأستمتع كذلك بجمال اللغة وبالأسلوب المليء بروح الدعابة.

     صحيحٌ أنه سيرة ذاتية للكاتب، لكنه استثنائي بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، وواقعي إلى حدٍ يجعل أحداثه مشابهة لحياة السواد الأعظم من القراء، أو معارف هؤلاء القراء، فهو سردٌ لحكاية اللجوء الفلسطيني وما تبع ذلك اللجوء من تطوراتٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ، سردٌ يختلط فيه الشخصي مع العام، وتظهرُ فيه سيرة الزمان والمكان قبل الشخص.   

     سأتحدث قليلاً عن محتوى الكتاب، وقصدتُ قليلاً لأنني لا أريد أن أنزع عليكم متعة قراءة الكتاب والتمعّن بتفاصيل التفاصيل الشيّقة في مضمونه، لكنّي سأعود قبل ذلك بالتاريخ إلى يوم توقيع هذا الكتاب الذي انتظرته بفارغ الصبر واللّهفة، وبفضول التمعّن بشخصية ذات شهرة عالمية ومحاولة استكشاف خفاياها، لم أكن أعرف الصحفي الفلسطيني عبدالباري عطوان بعمق، أو لم أكن أعرف عنه إلا أنه شخصية يتكرر حضورها على شاشات التلفزة حين تحتدم الأحداث في المنطقة، وأن والدي يستمع إليه بإمعان، ويُعجب بقدرته على الجدال والإطاحة بخصمه مهما كان، بالإضافة إلى أني زرت ذات يومٍ مكتب صحيفة القدس العربي في عمّان وتعرّفت على العاملين فيها وسمعت أقوالهم الطيبة عنه، تلك الصحيفة التي أسّسها في لندن عام 1989 ولا يزال يرأس تحريرها إلى الآن، والتي نالت نصيباً هائلاً من صفحات كتابه.

     وصلتُ إلى حيث توقيع كتابه قبل الوقت بعشر دقائق، وهذه ليست عادتي، لكن لهفة الانتظار جعلتني أتعجّل، كان توقيع الكتاب في إحدى قاعات مجمّع النقابات المهنية بالشميساني في عمّان.

     حصلتُ على نسخةٍ من كتاب "وطن من كلمات... رحلة لاجئ من المخيّم إلى الصفحة الأولى" والذهول يملؤني، فلم أتوقع أن يكون بهذا الحجم! وسرعان ما فتحت آخره لأعرف كم صفحة تنتظرني، ثم أغلقت الكتاب ونظري يتجه إلى الأعلى وسؤال يشغل ذهني "هل أنا مستعدة لقراءة سيرة ذاتية مكوّنة من حوالي 500 صفحة؟ أم أتركها للمهتمين بها وأعود لقراءاتي البسيطة؟" ولأنني اعتدت إنهاء كل ما أبدأ به، قررتُ أخذ الكتاب وقراءته وبكامل التركيز والإصرار.

     بعد عناءٍ وجدتُ مقعداً لي في القاعة، فتمسّكتُ به بكل قوتي، حيثُ كان واضحاً أن عدداً لا بأس به من الحضور سيستمع إلى عطوان واقفاً، وهذا ما لم أكُن أريده بتلك اللحظات، بدأتُ أتفحص الحضور الذي لم يتوقف تدفقه حتى بعد حوالي 15 دقيقة من بدء عطوان بالحديث، كان من بينهم وجوهاً صحفية مألوفة، جاء بعضها للاستماع إلى هذه الشخصية الصحفية المثيرة للجدل، والبعض الآخر جاء للكتابة عنها، ورجالاً ونساءً يبدو أنهم مهتمين بالسياسة وبالجانب الفلسطيني منها على وجه الخصوص، وأفراداً شعرتُ أنهم من أقارب عطوان، بالإضافة إلى عددٍ لا بأس به من أبناء المخيّمات الفلسطينية الذين خصّهم عطوان في كتابه.

     على الرغم من الصعوبة التي عانيتُها إلا أنّي كنتُ مصرّة على أن أقابل هذه الشخصية عن قرب وأن أحدّثها وأحصل على توقيعها، وبالفعل هذا ما حدث في ختام حفل توقيع الكتاب الذي كان مليئاً بالحكايات الممتعة، حيث حصلت على إهداءٍ خاصٍ خطّه عطوان على مرأى من عيني، حدث ذلك بعد لحظاتٍ طويلةٍ من الانتظار مع طابورٍ من المعجبين وعدساتٍ للمصورين.

     إذاً؛ بدأتُ الإبحار في هذا الكتاب الضخم، الذي كُتب بالإنجليزية ثم تُرجم إلى العربية، ومع ذلك بقي محتفظاً بأسلوب عطوان الذي اعتدناه في مقالاته، وبيّن عطوان سبب كتابته أولاً بالإنجليزية حيث كتب بأولى صفحات الكتاب "أردت أن أقدم إلى هؤلاء جميعا تجربة إنسان فلسطيني مشرد ينتمي إلى القاع العربي حيث نبتت بذرته وتعمقت جذوره، تجربة لاجىء استطاع أن يشق طريقه وسط صخور المعاناة بصلابة وتحمل ومثابرة في عالم السياسة والصحافة والفكر، متجاوزاً عقبات عديدة ومحارباً على أكثر من جبهة في مواجهة أعداء شرسين".

     يروى عطوان نشأته في مخيّم دير البلح للاجئين في قطاع غزة بعد الاحتلال الإسرائيلي، وقسوة الحياة التي رافقته وعائلته خلال طفولته ومن ثم مراهقته، ثم يصف لنا كيف ودّع أهله في المخيّم وتوجه إلى عمّان ليبدأ حياةً جديدةً معتمداً فيها على الكسب من جهده، لينتقل بعد ذلك إلى مصر لإكمال دراسته، ثم ليبدأ أولى تجاربه الصحفية في ليبيا فالسعودية وأخيراً في بريطانيا، حيث الصدمة الثقافية والنقلة النوعية.

     نقرأ في هذا الكتاب سيرة حياة عطوان التي عاصرت وقائع وأحداث محورية بتاريخ المنطقة العربية، والجميل أثناء القراءة أن القارئ لا يشعر بشخصنة الكاتب للأحداث أو بتفرده بأدوار البطولة، وربما هذا أهم ما يميّز الكتاب.

     ويظهر في الكتاب كيف حارب عطوان ليحصل على قوت يومه، ثم ليتخلص من الفقر، وأخيراً ليقضي على التمييز ضد أبناء جلدته.

     كما يروي لنا عطوان عن لقاءاته الاستثنائية مع أهم الشخصيات في العالم، ويبوح لنا بكثيرٍ من الأسرار التي رافقته خلال تلك اللقاءات، ويُحدثنا عن الصداقة القوية التي ربطته بكل من؛ الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات وكيف أنها استمرت على الرغم من اختلافهما بوجهات النظر في كثيرٍ من الأحيان، وبشاعر فلسطين محمود درويش، الذي كان يواظب على مكالمته بشكلٍ يومي.

     هذا الكتاب يُرضي نهم القارئ العربي للمعرفة وفضوله للولوج إلى أدق التفاصيل، حيث سيجد فيه القارئ الكثير من المعلومات بأسلوبٍ سردي شيّقٍ ولطيف، ومليءٍ بروح الدعابة التي لولاها لما استطاع كثير من القرّاء إكماله، فهو يتحدث بحقيقة الأمر عن حياةٍ قاسيةٍ ومؤلمةٍ طريقها محفوفٌ بالأشواك والدموع.

     بالنسبة لي؛ استفدت كثيراً من قراءته ومن جوانب متعددة، سأعددها على النحو التالي:

-       كشابة فلسطينية، قرأت عن تاريخ القضية الفلسطينة من جديد، وبحقائق وتفاصيل لم أكن أدركها من قبل، كما أني ازددتُ حنقاً وغضباً على العدو الصهيوني الذي سلب أجدادي أرضهم وفرّق شملهم وشتّتهم في بقاع الأرض.
-       كصحفيةٍ في بدايات طريقها، ولم يُحالفها الحظ بعد، ازددتُ أملاً ورغبةً بالاستمرار بهذه المهنة الخطيرة، فكما خاض عطوان تجربة صحفية صعبة واستطاع أن يثبت نفسه بالنهاية، أنا وغيري كذلك نستطيع التفوق والظهور إن ثابرنا وعزمنا على الإكمال، كما أني حصلت على دروس رائعة عن كيفية تعاطي الصحفي مع كثيرٍ من المواقف التي تمر عليه.
-       كقارئ يرغب بملء وقت فراغه بكتاب ممتع ومفيد، فأنا استمتعتُ بالفعل أثناء قراءتي، وشعرت بفائدة هائلة من المعلومات التي مرّت علي.  

     أنصح كل شخصٍ، باقتناء كتاب "وطن من كلمات... رحلة لاجئ من المخيّم إلى الصفحة الأولى" وقراءته بكامل حواسه، لعلّه بعد هذه القراءة يكون أكثر قدرةً على قراءة المستقبل والتفكّر بأحداث الحاضر.

     أختم بمشهد سرده عطوان في الأجزاء الأخيرة من الكتاب، حيثُ كان وعائلته في زيارة إلى إسدود قريته الفلسطينية، يقول "فيما كنا نعبر الشارع الرئيسي المغبرّ داخل إسدود شاهدت بناءً مهدماً إلى يساري بمواجهة كرم عنب، كانت هناك كتابات عربية مطبوعة بالأبيض على الحيطان الحمراء المهدمة.. كانت الكتابة تقول "مقهى غابين"، لم أستطع أن أصدق عيني.. مقهى غابين.. كم مرة سمعت أبي يتحدث عن هذا المكان. دخلت إلى أطلال المكان، كان مليئاً بالأعشاب والزجاجات المكسرة وكان بعض العابرين قد استخدموه مرحاضاً".

     في هذه الأثناء اقترب مستوطن إسرائيلي مسلّح برشاش من عطوان وسأله عما يفعل، ثم قال له "إنها خربة ومن الأفضل لك أن تخرج من أجل سلامتك الشخصية"، فرد عليه عطوان "إخوتي ولدوا في إسدود.. هذه قرية فلسطينية، هذه قريتنا وآثار أبي وأعمامي أراها هناكفرد المستوطن وقد بدت عليه العصبية والإحراج 
"هذا كان في الماضي" فعلّق عطوان "لا.. إنه المستقبل."  

Thursday 25 October 2012

وهذا أقلُّ الانتماء





     بعد أمسيةٍ قضاها جمعٌ من المُهتمين في إحدى بقاع عمّان العابقة بالثقافة، امتلأت آذان الحضور بصوت فتاةٍ تتحدث لهجةً فلسطينيةً قلّما نلمسُ نقاءها.


     وسرعان ما التمّ حولها الجمع، ليستلم "وثيقة العهد الأبدي" ويمضي عليها، ليكون بذلك عاهد نفسه على بقاء القدس حاضرةً في قلبه وضميره وكيانه.


     سرتُ مع الجمع، وهذا ما أفعله نادراً، لكن شيئاً ما أخبرني بضرورة فعلي لذلك، استلمتُ وثيقتي وأمضيتُ عليها بكامل حواسي والبهجةُ تملأُ روحي.


     كان مكتوباً على الوثيقة "أقسم بالله ذي الطول، أن تبقى القدس حاضرة في ضميري وكياني وأعاهد الله عهداً أبدياً أن أشد الرحال إليها مؤكداً وصيتي لأهلي وأبنائي، أن يحفظوا عهدي وأن يورثوه أبناءهم والله على ما أقول شهيد".


     حدث ذلك بالتزامن مع حملةٍ مليونيةٍ دوليةٍ أطلقتها الأمانة العامة "لمؤتمر القدس وشدّوا الرحال" للتوقيع على وثيقة قسم العهد الأبدي للقدس المحتلة، حيثُ يجوب المتطوعون مع هذه الحملة مناطق مختلفة حول العالم للتعريف بفكرتهم وشرح أهميتها وضرورتها خاصّة في هذه الفترة.


     لعلّ من أهم الثمار التي سيجنيها القائمون على هذه الحملة؛ التأكيد على استمرارية الحب والولاء للمدينة المقدسة حول العالم، وإبقاء هذه القضية قائمة بالرغم من كل محاولات "مسح الذاكرة" التي نشهدها. كما أنها ستستهدف الجيل الجديد من فلسطينيي الشتات لتثقيفه بالقضية الفلسطينية وبتاريخها ولضمان توارث الذاكرة الفلسطينية لمن بعده من الأجيال.


     حين استلمتُ وثيقتي ووقّعتُ عليها جمعتُ وثائق أخرى لأُهديها إلى معارفي حتى يشاركوني هذه البهجة، لكني وقعتُ مع بعضهم بنقاشاتٍ حول أهمية هذه الحملة، وما الذي ستُضيفه للقضية الفلسطينة؟! فكان ردي ببساطة؛ فلسطين تستحق الحياة وفلسطين كذلك تستحق أن تسيطر على روحنا ووجداننا وذاكرتنا المتوارثة، وهذا أقلّ الانتماء.
     
       

Monday 24 September 2012

الحرب أكذوبة يدفع ثمنها الأجيال





    
  عامٌ ونصف العام ونهر الدماء لم يجف بعد في سوريا الحبيبة، بل هو بازدياد، في بدايات الثورة تحمّستُ كثيراً، وشاركتُ دون أن أخبر أحداً من أهلي باعتصامات ضد النظام أمام السفارة السورية في عمّان، بل ونشرتُ عبر مواقع التواصل الاجتماعية الكثير من الأخبار والمقالات ومقاطع الفيديو ضد النظام السوري، ما دعا أفراداً مقرّبين من عائلتي في سوريا إلى مقاطعتي عبر هذه المواقع. كما أنّي حاولتُ الانضمام إلى إحدى القنوات السورية التابعة للجيش الحر للتطوّع معهم، لكنهم، وربما لحسن حظّي، رفضوني بحجة أني لا أملك الجنسية السورية، حاولت إقناعهم أن والدتي سورية وهذا يكفي، لكنهم رفضوني كذلك.


     كنتُ مؤمنة بهذه الثورة، وبصدق نواياها وبسلميتها، وكنتُ أعدُ الأيام حتى يسقط نظام الأسد وتنتصر الثورة، لكن الوضع أخذ بالتدهور، وجرت الرياح بما لا تشتهي السفن.



     بدأت نظرتي للأحداث تتغير، وأخذت ثورتي بالهدوء، لم أعُد منحازة لجهةٍ دون الأخرى، فالجهتين عاثتا بالأرض فساداً، وللجهتين علاماتُ استفهام كثيرة.



     أُدرك تماماً أن الأوضاع غير جيّدة في سوريا، وأن نظام الأسد يستبد، لكني أعي أن الجيش الحر ليس بملاك. هنالك أمرٌ خارجٌ عن الإرادة يحدث، وكأن أشخاصاً يلهون بلعبة شطرنج، أو يتحكمون بإحدى ألعاب الحرب عبر الحاسوب، ولا يذهب ضحية ذلك إلا المواطنين الأبرياء.



     لم أتوقع يوماً أن هذه الجنة ستُضحي هشيماً، ولم أصدّق أن أهلها الجميلين سيتحولون إلى لاجئين في مخيّمات تفتقر إلى أدنى مقوّمات الحياة، وأن صعوبة الحياة التي يعانونها في المخيّمات ستجعلهم ينصاعون لطلبات الطامعين بهم!



     أصبحتُ أحزن على هذا الشعب العريق، وعلى الدمار الذي حلّ بوطنه، وعلى حجم الخسائر التي تكبّدها بسبب أكذوبة! وحُزني الأكبر كان على حجم الآثار النفسية التي حلّت بأطفال سوريا، تلك الآثار التي لن تبرأ أبداً.



     منذ فترة والاتصالات لا تهدأ بين والدتي وأهلها في الشام، كثيرون منهم يودّون الهروب إلى عمّان، ووالدتي تحثّهم لفعل ذلك على الدوام. وأخيراً جاء أحدهم قبل حوالي أسبوعين، إنه خالي وعائلته.



     استقبلناهم في منزلٍ غير منزلنا، فمنزلنا كان شبه مهدومٍ بسبب أعمال التجديد أو كما أحب أن أسميها "ورشة الإنعاش" التي بدأناها قبل فترة ولا تزال حتى هذه اللحظة.



     أخذناهم في جولةٍ عمّانية اطّلعوا خلالها على ما نفعله في منزلنا، كانت الورشة لا تزال في بداياتها. بعد يومَين اقتربت منّي ابنة خالي التي لم تتجاوز الخامسة، لتسألني بحذر وبصوتٍ منخفض "هاد مانو بيتكن ما؟" حين أجبتها نعم سألتني "ليش لكن إجيتو هون؟" أجبتها أن ورشة تجديد قائمة في منزلنا، لذا نحن هنا، صمتت قليلاً وكأنها تستذكر أحداث سورية، ثم قالت "إيه صحيح.. عم تصلحوا بيتكن لإنُن أوّصوا عليكن"!



     هنا صدّقت حجم الدمار الذي حلّ بسوريا، فطفلة كهذه لن تكذب ولن تُبالغ بوصف الحقيقة، وشعرتُ بالحنق من كل متسبب بتلويث ذاكرة هذه الطفلة وغيرها من الأطفال، الذين يشكلون المستقبل، فما جمعته ابنة خالي في ذاكرتها من صورٍ وأصواتٍ خلال الحرب سيستمر بإرهابها عقوداً، تأكّد لي ذلك حين كنا جالسين في إحدى الليالي على شرفة المنزل ووصلتنا أصوات ألعابٍ ناريّةٍ اعتدنا توقيتها، فهربت هذه الطفلة بخوف للاحتماء بوالدتها.   



     لستُ أدري... أهذا نتاجُ الربيع الذي يدّعيه البعض، أم أنّهُ الخريفُ الأخيرُ على هذه الأرض!


     لستُ متشائمة، لكنّي حزينة جداً لما يحدث في عالمنا، وروحي لم تعُد تُطق هذه الحياة!


     العجيب بحكاية لجوء خالي إلى عمّان، أنه بعد أسبوعٍ من مجيئه إلى هنا حمل حقائبه وعاد بعائلته إلى الشام، كان هروبه هذه المرة من "بُعبع" الأسعار الآخذ بالتمادي!





Monday 13 August 2012

"فخذوا حصّتكم من دمنا وانصرفوا"






       وأنا أتجوّل في صفحات الـ "فيسبوك" استوقفتني صفحة، استفزني اسمُها، إلاّ أنّي تأنّيتُ بالحكم عليها، لعلّ ظنوني وشكوكي تكون خاطئة، لكنّي لم ألبث دقائق حتى فهمتُ فحواها واستراتيجيتها.

     عددٌ من أصدقائي على الـ "فيسبوك" معجبٌ بها، تساءلتُ في داخلي "هل يا تُرى قرأوا عن فكرتها؟ هل يا تُرى فهموا مقصدها؟". لا أعتقد ذلك، لأنّ أيّ عربي لو فهم ما ترمي إليه هذه الصفحة لما عبّر عن إعجابه بها (على الأقل أيّ عربيّ من أصدقائي)، سأفترض أنّ عدداً ممن أُعجبوا بها، فعلوا ذلك بهدف تتبعها ومعرفة ما تبثه من سموم، فأنا أفعل ذلك أحياناً على صفحاتٍ لا تتوافق وأفكاري لكنّي أرغب بتتبع ما تقوم بنشره، ومع ذلك عجزتُ أن أفعل هذا مع هذه الصفحة اللعينة، كما أعجزُ الآن عن كتابة اسمها أو الإشارة إليها برابط ما، ففكرةُ أن أكون ممّن يروجون لها أمرٌ يقتلني.

     تقول هذه الصفحة "يراود كثيرون، حين سماع كلمة "إسرائيل" تصوّرات أمنية عنيفة، ويبقى موضوع الصراع "الإسرائيلي- فلسطيني" (ركّزوا هنا على كيفيّة كتابة "الإسرائيلي- فلسطيني") حاضراً وحاسماً في أذهان الملايين بالنسبة لماهية "إسرائيل" ما يجعل النظرة إلى "إسرائيل" أحادية البعد".

     "بناءً على ذلك نضجت فكرة الصفحة خلال العام الماضي 2011، (ركّزوا هنا أيضاً على وقت إطلاق الصفحة "إنه زمن الثورات العربية")، وانطلقت بهيئة صفحة "فيسبوك"، وسرعان ما ضمت آلاف المعجبين، واكتملت في شكلها الحالي بهيئة موقع إلكتروني حديث ومعاصر".

     "تُعنى الصفحة بنقل صورة مختلفة عن "إسرائيل" بأبعادها المتعددة، وتهتم بتفكيك صورة "إسرائيل" المركبة، وإبراز جوانب "إنسانية ومثيرة، حضارية وثقافية" حول "إسرائيل"".

     "هذه الصفحة تريد أن تخلق أرضيّة للحوار، تهتم بما وراء الصراع"..!

     بهذه الكلمات عرّف القائمون على صفحة "إسرائيلية" موجّهة للعرب بأنفسهم، آملين محو ذاكرتنا والولوج إلى قلوبنا، خائفين من أن تصلهم شرارة ثوراتنا، متمنّين أن ينعموا في "وطنهم الأكذوبة" وطننا المسلوب بالأمن والسلام، غير آبهين بالجراح التي سبّبوها لنا، ولا بالشتات الذي أذاقونا إيّاه!

     من يتابع الصفحة؛ يجد أن الأخبار السياسية غائبة عنها بشكلٍ متعمّد، وأن كل ما تبثّه من مواضيع؛ إمّا ثقافي، أو فني، أو إنساني يلعب على وتر الإحساس البشري، كما أن تركيزهم الأكبر على المواضيع المتعلقة بإظهار الحجم الهائل للتآخي الموجود ما بين "الإسرائليين" والفلسطينيين.

     بسذاجة يطلب منّا القائمون على هذه الصفحة الصلح والتسامح، وبسذاجة تفوق سذاجتهم يوافق بعضنا على ذلك بالتجاوب مع ما يبثّون من سموم!

     أعتقد أنّ غضبي جعلني أظلم "بعض" المتجاوبين مع هذه الصفحات، فبما أنّ الرسول محمد عليه صلوات الله وسلامه أمرنا بتعلم لغة العدو حتى نأمن مكره (وأنا ممن يسير على هذا النهج) فمن باب أولى علينا أن نتتبع أخبار هذا العدو، وأن نقرأ عنه أكثر، لكن؛ المهم أن نكون مدركين لما نقرأ ونسمع، وألاّ تتسبب هذه السموم بغسل عقولنا ومحو ذاكرتنا، بل بتحفيزنا لخطوةٍ فعّالة.

     آمل أن يكون المتتبعين لمثل هذه الصفحات ممن يصعب غسل عقولهم!

     ما يشفي غليلي أن تعليقات الغالبية العظمى من المتابعين على مواضيع هذه الصفحة، هي إمّا تعليقات ساخرة من الأفكار الساذجة التي يحاول القائمون على الصفحة ترويجها، أو تعليقات متخمة بالشتائم أو بالأدعية على هذا العدو غير القابل للتحول.

     بمحاولةٍ منّي لاستفزاز أصدقائي على الـ "فيسبوك"؛ نشرتُ سؤالاً على صفحتي الخاصة "لو عُرض عليكم العيش بسلام وتآخي مع "إسرائيل"، وبناء جسر من المحبة والمودة، ونسيان كل الماضي، والبدء بصفحة جديدة. ولو كانوا المنادين بهالسلام "إسرائيليين" متحمسين جداً للعيش معكم بطمأنينة وراحة... شو بتكون ردّة فعلكم؟؟"

     لا أخفيكم أنّي ترددتُ بطرح هذا الموضوع، وبعد طرحه حصل ما خشيته، حيث وصلني أكثر من تساؤل استنكاري حول ما أنوي الوصول إليه من سؤال كهذا؟! والبعض ظنّ أنّي أشجع على السلام مع "إسرائيل"، وبيّن لي بشكلٍ غير مباشر أنه لم يتوقع مني ذلك على الإطلاق!

     اختلفت الإجابات على سؤالي، لكنها اتفقت على استحالة العيش بسلام مع عدوٍ غاصب، بعض الإجابات زادت كلماتها عن ثلاثة أسطر، وبعضها اقتصرت على كلمة واحدة، وهي "لا".

     أحدهم أجاب "لو أخي استولى على منزلي لقاتلته حتى أسترد ما أخذ مني، فما بالك بعدوٍ احتل أرضي؟! بالتأكيد سأظلّ أقاومه بكل ما أملك من قوة، حتى أسترد ما سلب مني"، وآخرٌ أجاب "ما بُني على باطلٌ فهو باطل"، وهناك من اكتفى بقول "دماؤنا لن تذهب هدراً".

     أختم بكلماتٍ من قصيدة "عابرون في كلامٍ عابر" للراحل محمود درويش، الذي تصادف هذه الأيام ذكرى وفاته الرابعة؛


أيها المارون بين الكلمات العابرة
منكم السيف، ومنا دمنا
منكم الفولاذ والنار، ومنا لحمنا
منكم دبابة أخرى، ومنا حجر
منكم قنبلة الغاز، ومنا المطر
وعلينا ما عليكم من سماء وهواء
فخذوا حصتكم من دمنا وانصرفوا
...

أيها المارون بين الكلمات العابرة
كالغبار المر مروا أينما شئتم ولكن
لا تمروا بيننا كالحشرات الطائرة
فلنا في أرضنا ما نعمل
و لنا قمح نربيه ونسقيه ندى أجسادنا
و لنا ما ليس يرضيكم هنا
...

أيها المارون بين الكلمات العابرة
كدسوا أوهامكم في حفرة مهجورة، وانصرفوا