Monday 29 October 2012

كتاب وطن من كلمات إرثٌ للأجيال القادمة


     مضى أكثر من ثلاثة أشهر على قراءتي لكتاب "وطن من كلمات... رحلة لاجئ من المخيّم إلى الصفحة الأولى" الذي يُعد السيرة الذاتية للصحفي الفلسطيني عبدالباري عطوان، وعلى الرغم من مرور تلك الفترة؛ إلا أن صوتاً خفياً بقي يخبرني بضرورة إبقاء هذا الكتاب جانب سريري، حيث اعتدتُ وضع الكتب التي لم أُنهها بعد أو التي أرغب بمعاودة قراءتها، وبالفعل؛ عدتُ إليه قبل أيام لأراجع بعضاً مما قرأته، فأستحضر التاريخ من جديد، وأستمتع كذلك بجمال اللغة وبالأسلوب المليء بروح الدعابة.

     صحيحٌ أنه سيرة ذاتية للكاتب، لكنه استثنائي بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، وواقعي إلى حدٍ يجعل أحداثه مشابهة لحياة السواد الأعظم من القراء، أو معارف هؤلاء القراء، فهو سردٌ لحكاية اللجوء الفلسطيني وما تبع ذلك اللجوء من تطوراتٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ، سردٌ يختلط فيه الشخصي مع العام، وتظهرُ فيه سيرة الزمان والمكان قبل الشخص.   

     سأتحدث قليلاً عن محتوى الكتاب، وقصدتُ قليلاً لأنني لا أريد أن أنزع عليكم متعة قراءة الكتاب والتمعّن بتفاصيل التفاصيل الشيّقة في مضمونه، لكنّي سأعود قبل ذلك بالتاريخ إلى يوم توقيع هذا الكتاب الذي انتظرته بفارغ الصبر واللّهفة، وبفضول التمعّن بشخصية ذات شهرة عالمية ومحاولة استكشاف خفاياها، لم أكن أعرف الصحفي الفلسطيني عبدالباري عطوان بعمق، أو لم أكن أعرف عنه إلا أنه شخصية يتكرر حضورها على شاشات التلفزة حين تحتدم الأحداث في المنطقة، وأن والدي يستمع إليه بإمعان، ويُعجب بقدرته على الجدال والإطاحة بخصمه مهما كان، بالإضافة إلى أني زرت ذات يومٍ مكتب صحيفة القدس العربي في عمّان وتعرّفت على العاملين فيها وسمعت أقوالهم الطيبة عنه، تلك الصحيفة التي أسّسها في لندن عام 1989 ولا يزال يرأس تحريرها إلى الآن، والتي نالت نصيباً هائلاً من صفحات كتابه.

     وصلتُ إلى حيث توقيع كتابه قبل الوقت بعشر دقائق، وهذه ليست عادتي، لكن لهفة الانتظار جعلتني أتعجّل، كان توقيع الكتاب في إحدى قاعات مجمّع النقابات المهنية بالشميساني في عمّان.

     حصلتُ على نسخةٍ من كتاب "وطن من كلمات... رحلة لاجئ من المخيّم إلى الصفحة الأولى" والذهول يملؤني، فلم أتوقع أن يكون بهذا الحجم! وسرعان ما فتحت آخره لأعرف كم صفحة تنتظرني، ثم أغلقت الكتاب ونظري يتجه إلى الأعلى وسؤال يشغل ذهني "هل أنا مستعدة لقراءة سيرة ذاتية مكوّنة من حوالي 500 صفحة؟ أم أتركها للمهتمين بها وأعود لقراءاتي البسيطة؟" ولأنني اعتدت إنهاء كل ما أبدأ به، قررتُ أخذ الكتاب وقراءته وبكامل التركيز والإصرار.

     بعد عناءٍ وجدتُ مقعداً لي في القاعة، فتمسّكتُ به بكل قوتي، حيثُ كان واضحاً أن عدداً لا بأس به من الحضور سيستمع إلى عطوان واقفاً، وهذا ما لم أكُن أريده بتلك اللحظات، بدأتُ أتفحص الحضور الذي لم يتوقف تدفقه حتى بعد حوالي 15 دقيقة من بدء عطوان بالحديث، كان من بينهم وجوهاً صحفية مألوفة، جاء بعضها للاستماع إلى هذه الشخصية الصحفية المثيرة للجدل، والبعض الآخر جاء للكتابة عنها، ورجالاً ونساءً يبدو أنهم مهتمين بالسياسة وبالجانب الفلسطيني منها على وجه الخصوص، وأفراداً شعرتُ أنهم من أقارب عطوان، بالإضافة إلى عددٍ لا بأس به من أبناء المخيّمات الفلسطينية الذين خصّهم عطوان في كتابه.

     على الرغم من الصعوبة التي عانيتُها إلا أنّي كنتُ مصرّة على أن أقابل هذه الشخصية عن قرب وأن أحدّثها وأحصل على توقيعها، وبالفعل هذا ما حدث في ختام حفل توقيع الكتاب الذي كان مليئاً بالحكايات الممتعة، حيث حصلت على إهداءٍ خاصٍ خطّه عطوان على مرأى من عيني، حدث ذلك بعد لحظاتٍ طويلةٍ من الانتظار مع طابورٍ من المعجبين وعدساتٍ للمصورين.

     إذاً؛ بدأتُ الإبحار في هذا الكتاب الضخم، الذي كُتب بالإنجليزية ثم تُرجم إلى العربية، ومع ذلك بقي محتفظاً بأسلوب عطوان الذي اعتدناه في مقالاته، وبيّن عطوان سبب كتابته أولاً بالإنجليزية حيث كتب بأولى صفحات الكتاب "أردت أن أقدم إلى هؤلاء جميعا تجربة إنسان فلسطيني مشرد ينتمي إلى القاع العربي حيث نبتت بذرته وتعمقت جذوره، تجربة لاجىء استطاع أن يشق طريقه وسط صخور المعاناة بصلابة وتحمل ومثابرة في عالم السياسة والصحافة والفكر، متجاوزاً عقبات عديدة ومحارباً على أكثر من جبهة في مواجهة أعداء شرسين".

     يروى عطوان نشأته في مخيّم دير البلح للاجئين في قطاع غزة بعد الاحتلال الإسرائيلي، وقسوة الحياة التي رافقته وعائلته خلال طفولته ومن ثم مراهقته، ثم يصف لنا كيف ودّع أهله في المخيّم وتوجه إلى عمّان ليبدأ حياةً جديدةً معتمداً فيها على الكسب من جهده، لينتقل بعد ذلك إلى مصر لإكمال دراسته، ثم ليبدأ أولى تجاربه الصحفية في ليبيا فالسعودية وأخيراً في بريطانيا، حيث الصدمة الثقافية والنقلة النوعية.

     نقرأ في هذا الكتاب سيرة حياة عطوان التي عاصرت وقائع وأحداث محورية بتاريخ المنطقة العربية، والجميل أثناء القراءة أن القارئ لا يشعر بشخصنة الكاتب للأحداث أو بتفرده بأدوار البطولة، وربما هذا أهم ما يميّز الكتاب.

     ويظهر في الكتاب كيف حارب عطوان ليحصل على قوت يومه، ثم ليتخلص من الفقر، وأخيراً ليقضي على التمييز ضد أبناء جلدته.

     كما يروي لنا عطوان عن لقاءاته الاستثنائية مع أهم الشخصيات في العالم، ويبوح لنا بكثيرٍ من الأسرار التي رافقته خلال تلك اللقاءات، ويُحدثنا عن الصداقة القوية التي ربطته بكل من؛ الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات وكيف أنها استمرت على الرغم من اختلافهما بوجهات النظر في كثيرٍ من الأحيان، وبشاعر فلسطين محمود درويش، الذي كان يواظب على مكالمته بشكلٍ يومي.

     هذا الكتاب يُرضي نهم القارئ العربي للمعرفة وفضوله للولوج إلى أدق التفاصيل، حيث سيجد فيه القارئ الكثير من المعلومات بأسلوبٍ سردي شيّقٍ ولطيف، ومليءٍ بروح الدعابة التي لولاها لما استطاع كثير من القرّاء إكماله، فهو يتحدث بحقيقة الأمر عن حياةٍ قاسيةٍ ومؤلمةٍ طريقها محفوفٌ بالأشواك والدموع.

     بالنسبة لي؛ استفدت كثيراً من قراءته ومن جوانب متعددة، سأعددها على النحو التالي:

-       كشابة فلسطينية، قرأت عن تاريخ القضية الفلسطينة من جديد، وبحقائق وتفاصيل لم أكن أدركها من قبل، كما أني ازددتُ حنقاً وغضباً على العدو الصهيوني الذي سلب أجدادي أرضهم وفرّق شملهم وشتّتهم في بقاع الأرض.
-       كصحفيةٍ في بدايات طريقها، ولم يُحالفها الحظ بعد، ازددتُ أملاً ورغبةً بالاستمرار بهذه المهنة الخطيرة، فكما خاض عطوان تجربة صحفية صعبة واستطاع أن يثبت نفسه بالنهاية، أنا وغيري كذلك نستطيع التفوق والظهور إن ثابرنا وعزمنا على الإكمال، كما أني حصلت على دروس رائعة عن كيفية تعاطي الصحفي مع كثيرٍ من المواقف التي تمر عليه.
-       كقارئ يرغب بملء وقت فراغه بكتاب ممتع ومفيد، فأنا استمتعتُ بالفعل أثناء قراءتي، وشعرت بفائدة هائلة من المعلومات التي مرّت علي.  

     أنصح كل شخصٍ، باقتناء كتاب "وطن من كلمات... رحلة لاجئ من المخيّم إلى الصفحة الأولى" وقراءته بكامل حواسه، لعلّه بعد هذه القراءة يكون أكثر قدرةً على قراءة المستقبل والتفكّر بأحداث الحاضر.

     أختم بمشهد سرده عطوان في الأجزاء الأخيرة من الكتاب، حيثُ كان وعائلته في زيارة إلى إسدود قريته الفلسطينية، يقول "فيما كنا نعبر الشارع الرئيسي المغبرّ داخل إسدود شاهدت بناءً مهدماً إلى يساري بمواجهة كرم عنب، كانت هناك كتابات عربية مطبوعة بالأبيض على الحيطان الحمراء المهدمة.. كانت الكتابة تقول "مقهى غابين"، لم أستطع أن أصدق عيني.. مقهى غابين.. كم مرة سمعت أبي يتحدث عن هذا المكان. دخلت إلى أطلال المكان، كان مليئاً بالأعشاب والزجاجات المكسرة وكان بعض العابرين قد استخدموه مرحاضاً".

     في هذه الأثناء اقترب مستوطن إسرائيلي مسلّح برشاش من عطوان وسأله عما يفعل، ثم قال له "إنها خربة ومن الأفضل لك أن تخرج من أجل سلامتك الشخصية"، فرد عليه عطوان "إخوتي ولدوا في إسدود.. هذه قرية فلسطينية، هذه قريتنا وآثار أبي وأعمامي أراها هناكفرد المستوطن وقد بدت عليه العصبية والإحراج 
"هذا كان في الماضي" فعلّق عطوان "لا.. إنه المستقبل."  

Thursday 25 October 2012

وهذا أقلُّ الانتماء





     بعد أمسيةٍ قضاها جمعٌ من المُهتمين في إحدى بقاع عمّان العابقة بالثقافة، امتلأت آذان الحضور بصوت فتاةٍ تتحدث لهجةً فلسطينيةً قلّما نلمسُ نقاءها.


     وسرعان ما التمّ حولها الجمع، ليستلم "وثيقة العهد الأبدي" ويمضي عليها، ليكون بذلك عاهد نفسه على بقاء القدس حاضرةً في قلبه وضميره وكيانه.


     سرتُ مع الجمع، وهذا ما أفعله نادراً، لكن شيئاً ما أخبرني بضرورة فعلي لذلك، استلمتُ وثيقتي وأمضيتُ عليها بكامل حواسي والبهجةُ تملأُ روحي.


     كان مكتوباً على الوثيقة "أقسم بالله ذي الطول، أن تبقى القدس حاضرة في ضميري وكياني وأعاهد الله عهداً أبدياً أن أشد الرحال إليها مؤكداً وصيتي لأهلي وأبنائي، أن يحفظوا عهدي وأن يورثوه أبناءهم والله على ما أقول شهيد".


     حدث ذلك بالتزامن مع حملةٍ مليونيةٍ دوليةٍ أطلقتها الأمانة العامة "لمؤتمر القدس وشدّوا الرحال" للتوقيع على وثيقة قسم العهد الأبدي للقدس المحتلة، حيثُ يجوب المتطوعون مع هذه الحملة مناطق مختلفة حول العالم للتعريف بفكرتهم وشرح أهميتها وضرورتها خاصّة في هذه الفترة.


     لعلّ من أهم الثمار التي سيجنيها القائمون على هذه الحملة؛ التأكيد على استمرارية الحب والولاء للمدينة المقدسة حول العالم، وإبقاء هذه القضية قائمة بالرغم من كل محاولات "مسح الذاكرة" التي نشهدها. كما أنها ستستهدف الجيل الجديد من فلسطينيي الشتات لتثقيفه بالقضية الفلسطينية وبتاريخها ولضمان توارث الذاكرة الفلسطينية لمن بعده من الأجيال.


     حين استلمتُ وثيقتي ووقّعتُ عليها جمعتُ وثائق أخرى لأُهديها إلى معارفي حتى يشاركوني هذه البهجة، لكني وقعتُ مع بعضهم بنقاشاتٍ حول أهمية هذه الحملة، وما الذي ستُضيفه للقضية الفلسطينة؟! فكان ردي ببساطة؛ فلسطين تستحق الحياة وفلسطين كذلك تستحق أن تسيطر على روحنا ووجداننا وذاكرتنا المتوارثة، وهذا أقلّ الانتماء.
     
       

Monday 24 September 2012

الحرب أكذوبة يدفع ثمنها الأجيال





    
  عامٌ ونصف العام ونهر الدماء لم يجف بعد في سوريا الحبيبة، بل هو بازدياد، في بدايات الثورة تحمّستُ كثيراً، وشاركتُ دون أن أخبر أحداً من أهلي باعتصامات ضد النظام أمام السفارة السورية في عمّان، بل ونشرتُ عبر مواقع التواصل الاجتماعية الكثير من الأخبار والمقالات ومقاطع الفيديو ضد النظام السوري، ما دعا أفراداً مقرّبين من عائلتي في سوريا إلى مقاطعتي عبر هذه المواقع. كما أنّي حاولتُ الانضمام إلى إحدى القنوات السورية التابعة للجيش الحر للتطوّع معهم، لكنهم، وربما لحسن حظّي، رفضوني بحجة أني لا أملك الجنسية السورية، حاولت إقناعهم أن والدتي سورية وهذا يكفي، لكنهم رفضوني كذلك.


     كنتُ مؤمنة بهذه الثورة، وبصدق نواياها وبسلميتها، وكنتُ أعدُ الأيام حتى يسقط نظام الأسد وتنتصر الثورة، لكن الوضع أخذ بالتدهور، وجرت الرياح بما لا تشتهي السفن.



     بدأت نظرتي للأحداث تتغير، وأخذت ثورتي بالهدوء، لم أعُد منحازة لجهةٍ دون الأخرى، فالجهتين عاثتا بالأرض فساداً، وللجهتين علاماتُ استفهام كثيرة.



     أُدرك تماماً أن الأوضاع غير جيّدة في سوريا، وأن نظام الأسد يستبد، لكني أعي أن الجيش الحر ليس بملاك. هنالك أمرٌ خارجٌ عن الإرادة يحدث، وكأن أشخاصاً يلهون بلعبة شطرنج، أو يتحكمون بإحدى ألعاب الحرب عبر الحاسوب، ولا يذهب ضحية ذلك إلا المواطنين الأبرياء.



     لم أتوقع يوماً أن هذه الجنة ستُضحي هشيماً، ولم أصدّق أن أهلها الجميلين سيتحولون إلى لاجئين في مخيّمات تفتقر إلى أدنى مقوّمات الحياة، وأن صعوبة الحياة التي يعانونها في المخيّمات ستجعلهم ينصاعون لطلبات الطامعين بهم!



     أصبحتُ أحزن على هذا الشعب العريق، وعلى الدمار الذي حلّ بوطنه، وعلى حجم الخسائر التي تكبّدها بسبب أكذوبة! وحُزني الأكبر كان على حجم الآثار النفسية التي حلّت بأطفال سوريا، تلك الآثار التي لن تبرأ أبداً.



     منذ فترة والاتصالات لا تهدأ بين والدتي وأهلها في الشام، كثيرون منهم يودّون الهروب إلى عمّان، ووالدتي تحثّهم لفعل ذلك على الدوام. وأخيراً جاء أحدهم قبل حوالي أسبوعين، إنه خالي وعائلته.



     استقبلناهم في منزلٍ غير منزلنا، فمنزلنا كان شبه مهدومٍ بسبب أعمال التجديد أو كما أحب أن أسميها "ورشة الإنعاش" التي بدأناها قبل فترة ولا تزال حتى هذه اللحظة.



     أخذناهم في جولةٍ عمّانية اطّلعوا خلالها على ما نفعله في منزلنا، كانت الورشة لا تزال في بداياتها. بعد يومَين اقتربت منّي ابنة خالي التي لم تتجاوز الخامسة، لتسألني بحذر وبصوتٍ منخفض "هاد مانو بيتكن ما؟" حين أجبتها نعم سألتني "ليش لكن إجيتو هون؟" أجبتها أن ورشة تجديد قائمة في منزلنا، لذا نحن هنا، صمتت قليلاً وكأنها تستذكر أحداث سورية، ثم قالت "إيه صحيح.. عم تصلحوا بيتكن لإنُن أوّصوا عليكن"!



     هنا صدّقت حجم الدمار الذي حلّ بسوريا، فطفلة كهذه لن تكذب ولن تُبالغ بوصف الحقيقة، وشعرتُ بالحنق من كل متسبب بتلويث ذاكرة هذه الطفلة وغيرها من الأطفال، الذين يشكلون المستقبل، فما جمعته ابنة خالي في ذاكرتها من صورٍ وأصواتٍ خلال الحرب سيستمر بإرهابها عقوداً، تأكّد لي ذلك حين كنا جالسين في إحدى الليالي على شرفة المنزل ووصلتنا أصوات ألعابٍ ناريّةٍ اعتدنا توقيتها، فهربت هذه الطفلة بخوف للاحتماء بوالدتها.   



     لستُ أدري... أهذا نتاجُ الربيع الذي يدّعيه البعض، أم أنّهُ الخريفُ الأخيرُ على هذه الأرض!


     لستُ متشائمة، لكنّي حزينة جداً لما يحدث في عالمنا، وروحي لم تعُد تُطق هذه الحياة!


     العجيب بحكاية لجوء خالي إلى عمّان، أنه بعد أسبوعٍ من مجيئه إلى هنا حمل حقائبه وعاد بعائلته إلى الشام، كان هروبه هذه المرة من "بُعبع" الأسعار الآخذ بالتمادي!





Monday 13 August 2012

"فخذوا حصّتكم من دمنا وانصرفوا"






       وأنا أتجوّل في صفحات الـ "فيسبوك" استوقفتني صفحة، استفزني اسمُها، إلاّ أنّي تأنّيتُ بالحكم عليها، لعلّ ظنوني وشكوكي تكون خاطئة، لكنّي لم ألبث دقائق حتى فهمتُ فحواها واستراتيجيتها.

     عددٌ من أصدقائي على الـ "فيسبوك" معجبٌ بها، تساءلتُ في داخلي "هل يا تُرى قرأوا عن فكرتها؟ هل يا تُرى فهموا مقصدها؟". لا أعتقد ذلك، لأنّ أيّ عربي لو فهم ما ترمي إليه هذه الصفحة لما عبّر عن إعجابه بها (على الأقل أيّ عربيّ من أصدقائي)، سأفترض أنّ عدداً ممن أُعجبوا بها، فعلوا ذلك بهدف تتبعها ومعرفة ما تبثه من سموم، فأنا أفعل ذلك أحياناً على صفحاتٍ لا تتوافق وأفكاري لكنّي أرغب بتتبع ما تقوم بنشره، ومع ذلك عجزتُ أن أفعل هذا مع هذه الصفحة اللعينة، كما أعجزُ الآن عن كتابة اسمها أو الإشارة إليها برابط ما، ففكرةُ أن أكون ممّن يروجون لها أمرٌ يقتلني.

     تقول هذه الصفحة "يراود كثيرون، حين سماع كلمة "إسرائيل" تصوّرات أمنية عنيفة، ويبقى موضوع الصراع "الإسرائيلي- فلسطيني" (ركّزوا هنا على كيفيّة كتابة "الإسرائيلي- فلسطيني") حاضراً وحاسماً في أذهان الملايين بالنسبة لماهية "إسرائيل" ما يجعل النظرة إلى "إسرائيل" أحادية البعد".

     "بناءً على ذلك نضجت فكرة الصفحة خلال العام الماضي 2011، (ركّزوا هنا أيضاً على وقت إطلاق الصفحة "إنه زمن الثورات العربية")، وانطلقت بهيئة صفحة "فيسبوك"، وسرعان ما ضمت آلاف المعجبين، واكتملت في شكلها الحالي بهيئة موقع إلكتروني حديث ومعاصر".

     "تُعنى الصفحة بنقل صورة مختلفة عن "إسرائيل" بأبعادها المتعددة، وتهتم بتفكيك صورة "إسرائيل" المركبة، وإبراز جوانب "إنسانية ومثيرة، حضارية وثقافية" حول "إسرائيل"".

     "هذه الصفحة تريد أن تخلق أرضيّة للحوار، تهتم بما وراء الصراع"..!

     بهذه الكلمات عرّف القائمون على صفحة "إسرائيلية" موجّهة للعرب بأنفسهم، آملين محو ذاكرتنا والولوج إلى قلوبنا، خائفين من أن تصلهم شرارة ثوراتنا، متمنّين أن ينعموا في "وطنهم الأكذوبة" وطننا المسلوب بالأمن والسلام، غير آبهين بالجراح التي سبّبوها لنا، ولا بالشتات الذي أذاقونا إيّاه!

     من يتابع الصفحة؛ يجد أن الأخبار السياسية غائبة عنها بشكلٍ متعمّد، وأن كل ما تبثّه من مواضيع؛ إمّا ثقافي، أو فني، أو إنساني يلعب على وتر الإحساس البشري، كما أن تركيزهم الأكبر على المواضيع المتعلقة بإظهار الحجم الهائل للتآخي الموجود ما بين "الإسرائليين" والفلسطينيين.

     بسذاجة يطلب منّا القائمون على هذه الصفحة الصلح والتسامح، وبسذاجة تفوق سذاجتهم يوافق بعضنا على ذلك بالتجاوب مع ما يبثّون من سموم!

     أعتقد أنّ غضبي جعلني أظلم "بعض" المتجاوبين مع هذه الصفحات، فبما أنّ الرسول محمد عليه صلوات الله وسلامه أمرنا بتعلم لغة العدو حتى نأمن مكره (وأنا ممن يسير على هذا النهج) فمن باب أولى علينا أن نتتبع أخبار هذا العدو، وأن نقرأ عنه أكثر، لكن؛ المهم أن نكون مدركين لما نقرأ ونسمع، وألاّ تتسبب هذه السموم بغسل عقولنا ومحو ذاكرتنا، بل بتحفيزنا لخطوةٍ فعّالة.

     آمل أن يكون المتتبعين لمثل هذه الصفحات ممن يصعب غسل عقولهم!

     ما يشفي غليلي أن تعليقات الغالبية العظمى من المتابعين على مواضيع هذه الصفحة، هي إمّا تعليقات ساخرة من الأفكار الساذجة التي يحاول القائمون على الصفحة ترويجها، أو تعليقات متخمة بالشتائم أو بالأدعية على هذا العدو غير القابل للتحول.

     بمحاولةٍ منّي لاستفزاز أصدقائي على الـ "فيسبوك"؛ نشرتُ سؤالاً على صفحتي الخاصة "لو عُرض عليكم العيش بسلام وتآخي مع "إسرائيل"، وبناء جسر من المحبة والمودة، ونسيان كل الماضي، والبدء بصفحة جديدة. ولو كانوا المنادين بهالسلام "إسرائيليين" متحمسين جداً للعيش معكم بطمأنينة وراحة... شو بتكون ردّة فعلكم؟؟"

     لا أخفيكم أنّي ترددتُ بطرح هذا الموضوع، وبعد طرحه حصل ما خشيته، حيث وصلني أكثر من تساؤل استنكاري حول ما أنوي الوصول إليه من سؤال كهذا؟! والبعض ظنّ أنّي أشجع على السلام مع "إسرائيل"، وبيّن لي بشكلٍ غير مباشر أنه لم يتوقع مني ذلك على الإطلاق!

     اختلفت الإجابات على سؤالي، لكنها اتفقت على استحالة العيش بسلام مع عدوٍ غاصب، بعض الإجابات زادت كلماتها عن ثلاثة أسطر، وبعضها اقتصرت على كلمة واحدة، وهي "لا".

     أحدهم أجاب "لو أخي استولى على منزلي لقاتلته حتى أسترد ما أخذ مني، فما بالك بعدوٍ احتل أرضي؟! بالتأكيد سأظلّ أقاومه بكل ما أملك من قوة، حتى أسترد ما سلب مني"، وآخرٌ أجاب "ما بُني على باطلٌ فهو باطل"، وهناك من اكتفى بقول "دماؤنا لن تذهب هدراً".

     أختم بكلماتٍ من قصيدة "عابرون في كلامٍ عابر" للراحل محمود درويش، الذي تصادف هذه الأيام ذكرى وفاته الرابعة؛


أيها المارون بين الكلمات العابرة
منكم السيف، ومنا دمنا
منكم الفولاذ والنار، ومنا لحمنا
منكم دبابة أخرى، ومنا حجر
منكم قنبلة الغاز، ومنا المطر
وعلينا ما عليكم من سماء وهواء
فخذوا حصتكم من دمنا وانصرفوا
...

أيها المارون بين الكلمات العابرة
كالغبار المر مروا أينما شئتم ولكن
لا تمروا بيننا كالحشرات الطائرة
فلنا في أرضنا ما نعمل
و لنا قمح نربيه ونسقيه ندى أجسادنا
و لنا ما ليس يرضيكم هنا
...

أيها المارون بين الكلمات العابرة
كدسوا أوهامكم في حفرة مهجورة، وانصرفوا




Sunday 8 July 2012

تدوينتي الأولى!




       أنا مروة وهذه تجربتي الثانية في عالم التدوين!

     بدأتُ بمدونة فراشة محلقة عام 2009، عندما أشار إليّ أحد الزملاء بذلك، أعجبتني الفكرة، فأنشأتُ مدونتي، وسرعان ما غصتُ في هذا العالم المثير.


     اليوم أُودّع مدونتي الأولى، التي صبرت عليّ حتى وصلتُ لدرجة من النضج، وأُكمل طريقي في التدوين بمدونة جديدة وصفحة من الفكر جديدة كذلك، أو على الأقل متنوعة :)

     نقلتُ إلى مدونتي هذه مجموعة من كتاباتي التي أدرجتها في المدونة السابقة، بالرغم من قدم بعضها، وربما رداءة كتابته، أو سطحية فكره، إلا أن أثر تلك الكتابات لا يزال كبيراً في داخلي.

     مدونتي هذه في بداياتها، وتحتاج لجهد طويل ومستمر حتى يصل صوتها، وهذا لا يكتمل إلا بكم أصدقائي :)

Saturday 7 July 2012

هَوَاجِسُ الأَحْلَامِ هِيَ الأَصْدَقْ

من تدوينات مكتوب المرحوم - 2012

      استرقَتْ نظرةً سريعةً إلى المرآة قبلَ أنْ تُغادر المنزل، فوجدت عينَيها تتلألآن، ووجنَتَيها ترتفعان فرحاً، غادرتْ المنزل، فداعبتها في الطريق نسماتُ ريحٍ لطيفة، أخذَتْ نفساً عميقاً ثمّ أكملت المَسِير.

     وصلَت خلال سيرها إلى شارعٍ لطالما أحبّته، فيهِ جسرٌ كلّما نظرت إليه ازدادت رهبةً… الجميع يعبُرْهُ، إلاّ هي، تخشى العُبور، لكن رغبتَها في ذلك تكبُرُ يوماً بعدَ يوم. فعُبورُ ذاكَ الجسر سيُوصِلُها حيثُ الحبيب، الذي أخبرها ذاتَ شتاء؛ أنّ بابهُ مفتوحٌ لها متى شاءت.

     وقفَتْ أمامَ الجِسر للحظات، أطالت النظر إلى أدْراجه، ثمّ وأخيراً صَعَدتْها…

     عبَرَتْ الجِسْرَ إذاً، فقابلها مبنى لها معَهُ ذكريات ليست جميلة ولا سيّئة، لكنّ حاضرها معهُ أخّاذ… دخلت المبنى واتّجهت بحماسٍ إلى مكتب ذاك الحبيب، الذي استقبلها بفتور!

     بقِيت واقفةً، فهو لم يدعُها للجلوس، سألتهُ عن حاله فأجابها أنّهُ بخير، لكنّهُ لم يسألها عن حالها، حتى أنّهُ لم يُثنِ على مظهرها كعادته، ولَمْ يُطِل النّظر إلى عينيها!

     انتابتها رغبةٌ شديدةٌ بالبكاء، سألتهُ إن كانت قادرة على مُحادثته قليلاً، فالشوق داخلها مُشتعلٌ، اعتذر لها، وسألَها الرّحيل، فهو على موعدٍ مع امرأةٍ أكثرَ سِحْراً، وأقلّ تعلُّقاً، والغرورُ يملأُ روحَها.

     التفَتَتْ إلى البابِ استعداداً لمغادرة مكتبه، خَطَتْ ببُطءٍ علّهُ يُنادي عليها كي تعود، لكنّها وصلت إلى الباب مكسورةَ الخاطرِ جارَّةً لأذيالِ خيبةٍ قاسيةٍ اعتقدَتْ أنّها فارقتها، نظرت إليه قبل الرحيل، وقالت والدّمعُ يُزاحمُ مُقلَتَيْها: من هذه اللّحظة؛ أنا أكرهُك… إلاّ أنّهُ لَمْ يُلقِ اهىتماماً لِما صرَّحت به.

     عبرَتْ الجِسْر من جديد، والخذلانُ رفيقُها، الحُزن لَمْ يُشعِرْها بالضوضاء من حولها، إلاّ أنّ صفيراً مُفاجئاً ملأَ المكان، لتفتح عينيها على وهج هاتفها النّقال…

     هي السّاعةُ السّابعةُ صباحاً، حانَ وقتُ الاستيقاظِ إذاً، ولتتبخّر تلكَ الصُّور التي لا تفارقُ أحلامَها مُنذُ لاقَت الحبيب! تناولَتْ هاتفها النّقال، وصبّحت عليهِ كعادتها برسالةٍ نصّية مليئةٍ بالمشاعر…

     لكن؛ إلى متى ستستمرُ تلكَ العاشقة بتجاهُلِ ما يجول في خاطرها من قلقٍ وحيرة؟!   


لَحْظَـةٌ خَاطِفَـةٌ

من تدوينات مكتوب المرحوم - 2012

      إذاً فقد أوفى بوعده؛ اتصل بها البارحة فدقّ قلبُها، وارتعشت أنامِلُها، أجابتْهُ بلهفة، فسألها بشكلٍ مُستعجَلٍ عن حالها وعن أخبارها، ثم اعتذر لها عن غيابه تلك الفترة…

     حدّثتْهُ عن شوقها الدائم له، وعن الحُزن الذي سبّبهُ غيابه، ونقلت لهُ رغبتها بدوام الاتصال بينهُما، فبادلها ذات الشعور بالكلمات، لكن لاوعيَهُ أخبرها بما حاول إخفاءَهُ! أخبرها أنّهُ ضَجِرَ ذاك الحُب الخاطف، وأنّهُ أساساً لا يهوى تلك المُراسلات الغرامية، ولا وقت له لذلك، بالمقابل؛ أكّد لها أنّ تلك اللّحظات كانت تُسعدهُ وتغمُرهُ بالحنان، لكنّهُ الآن غيرُ مُتفرغٍ لها، فالضيقُ يُسيطرُ عليه…

     وقبل أنْ يُنهي المُكالمة؛ اعتذرَت لهُ عمّا سبّبتهُ له من قلقٍ بسبب ملاحقتها الدائمة له، فباحَ لها بحبه، وسألَها عدم التحوّل عمّا اعتادَهُ منها، فشكّت بِصِدْق بَوْحِه، وتَاهَت بالمقصود مِن طَلَبِه، وبِتَبْعاتِهِ إنْ نفّذت..! 

     اسْتَذكرَتْ أنّ الضيق كان رفيقها الدائم، ومع ذلك لم يُبعِدها عمّن اتّخذَتهُ خليلاً، بلْ إنّ حُزنَها وألمَها كانا يتلاشيان كلّما حضرَ طَيْفَهُ، فكيف إن لاقتْهُ!

     لتُدرك؛ تلك التي أرسلت له في أواخر الشّتاء:

· كُلَّمَا دَاعَبَتْ الرِّيحُ وَجْنَتَاي ذَكَرْتُك! أَيُّ سِحْرٍ هَذَا الّذِي أَحْدَثْتَهُ بِوِجْدَانِي؟!

     لتُدركَ أنّ السُحُبَ تبدّدت، وأنّ الشّمسَ بَزَغَتْ، وأنّ المطر كفَّ عن هُطوله، وأنّ ما بَيْنَهُما أقرب ما يكون لبَرْقٍ أَشَعَّ للحظاتٍ ثُمّ اختفى!

     نَعَم هي كذلك اللّحظة المُهيْمِنة على البشر، فيتوهّمُ الجاهلُ لمعناها آمالاً لن تتحققَ إلاّ بالأحلام، أمّا الواعي لها؛ فيتّخِذُها منهجاً لِسَيْر الحياة.

وسط ُعمّان حيثُ الواقعُ يَفيض

من تدوينات مكتوب المرحوم - 2012

      مُدهشٌ تناقضُ الحياة؛ ما هو أساسيٌ لدى البعض، رفاهيٌ لدى آخرين! وبشعٌ جَورُها؛ فكم حرمت أُناساً من أدنى حقوقهم، حتّى جعلت منهُم بشراً غارقاً في العَوز، وكم أغرقت آخرين في رغدهم، فصنعت من حبّ الذّات منهجاً لهم.
     هنا في وسط عمّان، المُكتظة شوارعه بالمشاة سيراً أو على مركبات، والممتلئة أرصفته بالباعة وببضائعهم التي اعتادت الرّكود، وبالمحال ذات النكهة الخاصّة، وبكثيرٍ من المتجولين، وبطائفةٍ من الماكثين القابعين في هامش الحياة، هنا؛ أدركتُ أنّ ما ترصده عينيّ جزءٌ لا يتجزأ من حاضر المكان، جزءٌ يزيدُ هذه المنطقة جمالاً وبهاءً.
     تجوّلتُ في شوارع وسطِ عمّان، ذات التضارب الصّارخ في مكوناتها، بشراً وجماداً، والمُحاطة بجبالٍ تزيدُها ألقاً، لكنّ رائحةً كريهةً ملأَتْ أنفي؛ فتنبّهتُ على بائعٍ يقذف بأكياس قمامة على حافّة الرصيف، وكأنّهُ يجهلُ أنّ تلك السلال على الرصيف المُقابل مخصصة لاحتواء هذه القمامة! ومع الأسف؛ حين تنقلتُ أكثر في شوارع وسط العاصمة؛ أدركتُ أنّ أكياس القمامة المتناثرة هنا وهناك؛ من أساسيات المكان، وأن إلقاءها في السّلال هو الأمر الغريب!
     ثمّ؛ في باحة المسجد الحُسيني؛ لفت انتباهي طفلٌ يُروّجُ لبضاعته، عمره لا يتجاوز العاشرة، لكنّ هيأتهُ وهندامه يوحيان بغير ذلك، وكأنّما قسوة الحياة أعادت عَجْنه، لتستبدل بشاشة وجهه وبراءة عينيه بمظهرٍ عابسٍ واجم.
     اقتربتُ منه، ألقيتُ عليه التّحية، ثمّ سألتُهُ إن كان يذهب إلى المدرسة، فلم يجبني أنه يذهب فحسب، بل أخبرني أنّهُ متفوقٌ بدراسته كذلك، فسألتُه عن سبب غيابه في هذا اليوم، ليجِبني أنّ على والده إنجاز بعض المهام، الأمر الذي جعله يحل مكانه إلى حين قدومه، فهذا مصدر رزقهم الوحيد، وهو رجل المنزل في غياب والده.
     لم أستطع سوى الإعجاب بهذا الطّفل الرجل، ومع ذلك فقد حزنتُ على طفولته المهدورة، هو وغيره ممّن تتشابه حكاياتهم معه، وكم هُم كُثر…
     خلال سَيْري؛ وقع نظري على سيدةٍ تمتلكُ وجهاً نُحاسياً وادعاً، الكهولة باديةٌ عليها من نظرةِ عينَيها وتجاعيدِ يديها، وكذلك من ظهرها المُنحني وهي تسير، تابعتُ خُطاها، فإذا بها تتّخذُ من إحدى المساحات الفارغة على الرّصيف المُزدحم بالمُشاة والبضائع مقرًّا لها، فتجلسُ بكل أريحيةٍ وكأنّهُ مأواها المُعتاد، ظلُّها هو الشّمسُ، أمّا رفيقُها الوفي فهو الجوع، هذا ما استنتجته من جسدها الذائب في ثوبها!
     أكملتُ سيري لكن فكري بقيَ مشغولاً بحال هذه السّيدة، التي تُمثلُّ شريحةً واسعة في وسط البلد، حتى أيقظني من شرودي ضحكُ فتاةٍ ممتلئة بأشكال البذخ، يحيطُ بها فتيات أخريات لا يختلفن عنها، يبدو أنّهن جئن للتنزُه في هذه المساحة الحقيقية من عمّان.
     لم أعجب لهذا التناقض، فهنا الواقعُ ملموس، أُناسٌ يَسْعَوْن جاهدين لنَيْل حقوقهم المشروعة، وآخرين مُتخمين من التّرف، قادمين إمّا للتطفّل، أو للاستحواذ على مزيدٍ من الرفاهية.
     بالفعل؛ حقيقةُ الأمور تتضحُ هنا، حيثُ التآلُفُ والاختلافُ موجودان، حيثُ لا مجال للإنكار أو الكتمان، فهذه هي الحياة؛ ببساطتها المُفرطة، وبإجحافها الآخِذ بالتمادي.
    

اسكندريلا… الذَّاكِرَةُ تَحْضُرُ مِنْ جَدِيدْ

من تدوينات مكتوب المرحوم - 2012

      رسمتُ مُسبقاً حجم الحضور الذي سأُلاقيه في الأُمسية المُتوجهة إليها في دارة الفنون بقلب عمّان، في اللويبدة تحديداً، ثمّ تراءت إلى ذاكرتي صُور آخر أُمسيةٍ حضرتُها في هذه الدّارة، حيثُ كانت قبل ثلاثة أعوام، في تموز 2009، للشاعر الفلسطيني الجميل تميم البرغوتي، هي أمسيةٌ شعريةٌ حضرتُها مع عددٍ من الشّباب الجامعي المتحمّس للهمّ الفلسطيني، كان الجمهور حينها يقارب الـ 1500 شخص، أو يزيد قليلاً، ما جعلني أُنصتُ لأشعار البرغوتي واقفةً لازدحام المكان، مقاعداً وأدراجاً وحجراً، والحقيقة أنّي كنتُ مشدوهة بالحجم الهائل من المُحتشدين، من مختلف الفئات العمرية، ومذهولة بالشّاعر الشّاب الذي جمعهم على اختلاف أطيافهم!

     الأمسية الثانية لي في دارة الفنون كانت قبل يومين، لفرقةٍ مصريةٍ عرفتُها في عالم الافتراض، وبالتزامن مع ثورة 25 يناير، وها أنا اليوم ألمسها على أرض الواقع، إنّها "فرقة اسكندريلا" أو "فرقة الشّارع" التي استقبلها الشّارع الأردني، بمختلف أجناسه، بلهفةِ طفلٍ ينتظر صباح العيد لارتداء ثيابه الجديدة لأول مرّة.

     هذه الأمسية لم يكُن شبابها من الحاملين للهمّ الفلسطيني فحسب، بل هو جمهورٌ أوسع وأعم، جمهورٌ عربيٌ مُجتمعٌ على وحدة الفكرة والهدف في حُقبةٍ مميّزة من الزمان، جمهورٌ لن يجد فرقةً تفوق "اسكندريلا" في العروبة.

     اضطررتُ لخطفِ روحي من نهايةِ ندوةٍ قيّمةٍ تتحدّثُ عن "السُّخرية في ظلّ الربيع العربي" حتى أصل إلى الأمسية في الموعد المُحدد، بالرّغم من هذا؛ وصلتُ متأخرة بعد هروبي من هذه النّدوة التي ضمّت أسماءً تُرفعُ لها القُبّعات احتراماً وتقديراً، ومع ذلك فقد كان حجم جمهورها لا يتعدى عدد أصابع اليدين! ولعلّ هذه أكبر سخرية يُواجهها المتحدثون في الندوة.

     في دارة الفنون وقفتُ من جديد، قرابة الـ 90 دقيقة وكل خليّةٍ من جسدي تستشعر وتقشعرُّ إلى ما تشدو به فرقة "اسكندريلا" صوتاً ولحناً، حتى حلّقتُ إلى عالمٍ مُختلفٍ لم أسمع عنهُ من قبل، شعرتُ معهُم وكأنني أخرُجُ عن صمتي، وكأنني أُمسكُ بحُلُمي.

     في أوجّ غَمْرة السّحر الذي أحدثتهُ بي فرقة "اسكندريللا" تنبّهتُ على نفسي، فتذكّرتُ أنّي "مشروعُ صحفية" وأنّهُ عليّ تشغيل حاسّة "الملاحظة الشّاملة" للمكان الذي أطأ أرضه، ورصْد كل ما يدور حولي، مهما كان…

     بدأت عيناي تتفحّصان الجمهور، كان هائلاً، لعلّهُ زاد عن الألف، لكنّي لستُ متأكدة، فقد فاض الجمهور عن المكان كما في أمسية البرغوتي، مقاعداً وأدراجاً وحجراً، ذاك الحجر الذي كاد ينطقُ من روعة ما يسمع، من بين الجمهور عددٌ لا بأس به من الوجوه المألوفة لدي.

     ترقّبتُ ردود أفعال الحاضرين مما يسمعون ويشاهدون، فكانت ردوداً مختلفة؛ منهم من يُنصت بكامل حواسه، مغمضاً عينيه، مُحرّكاً رأسهُ بانسجامٍ واضحٍ مع الموسيقى، تاركاً روحه تُحلّق، ومنهم من يستمع باهتمامٍ مُصطنع، لا يكفّ عن مراقبة السّاعة، وكأنّهُ حضر مُجبراً لإنهاء مهمّةٍ ما، ومنهم من قتلهُ الفراغ، فجاء ليروّح عن نفسه قليلاً، ومنهم من لا يدري إلى ماذا أتى، هو جمهورٌ فضولي، يميلُ لكلّ جديد، يكتفي بالترقب وتوزيع الابتسامات، وأحياناً ينجحُ بالاندماج، ومنهم كذلك شبابٌ متحمّس بشكلٍ مبالغ، جميلٌ بإقدامه، لكنّهُ خطير ومؤذٍ بسطحيته، سمِع عن فرقةٍ ستغني ضد إسرائيل، فانطلق لحضورها، دون أن يقرأ عنها، أو حتى أن يحفظ اسمها!

     التقطتُ بعض الصُّور التذكارية، وسجلتُ مقاطعاً غنائيةً للفرقة، كما دوّنتُ بعض المشاعر التي اعترتني خلال هذه الأمسية المُدهشة! ممّا دوّنت؛

"منذ أيّام طرأ على فكري خاطرٌ مجنونٌ، وفي هذه الدّقائق أستحضرُ أحداثه بطاقة خفيّة أجهلُ مصدرها، أعتقدُ أنّ لحظاتٍ تفصلُني عن الجنون الذي أنوي تحقيقه"…

     لعلّ تداخل المشاعر جعلني أدوّن كلماتٍ لا أعيها بالكامل، لكنّي سعيدة بهذا الغموض القابل للتحقيق الذي منحتني إيّاه فرقة "اسكندريلا".

     من ترقّبي لمن حولي، وجدتُ كثيراً من الحضور مثلي، بل وأفضل بالفعل، كانوا يلتقطون صوراً، ويسجّلون مقاطع فيديو، ويدوّنون بعض الكلمات، ومعهم كلّ الحق في ذلك، فهذه لحظاتٌ مخطوفةٌ من الزّمن، لا بد من حفظها واسترجاعها فيما بعد، لأنّهُ قلّما تتكرر بكامل ألقها وبهائها كاللّيلة.

     انتهت الأمسية فسلّمتُ على بعض الوجوه التي أعرفها، ثمّ خرجتُ من دارة الفنون وأنا ممتنّةٌ لها لاحتضانها هذه الفرقة السّاحرة، ولاحتوائنا نحنُ المُتعطّشون لقطرة أمل، وشاكرة كذلك لجمعية الحنّونة للثقافة الشّعبية، التي ضمّنت فرقة "اسكندريلا" لفعالياتها التي أطلقتها في الموسم الرّابع من برنامج "حرّاس الذاكرة".

  
* نُشر هذا المقال لأول مرة بتاريخ 18 أيار 2012

     

 أُدرجُ لكُم بعضاً من الكلمات التي تتغنّى بها هذه الفرقة الأخّاذة، ثمّ مقاطعَ غنائية للفرقة سجّلها بعض الحضور:

 يـُحكى أنّ .. أنّ إيه؟
سرقوا بلادنا ولاد الإيه
يـُحكى أنّ .. كان يا مكان
سرقوا بلادنا الأمريكان
يـُحكى أنّ .. جيل ورا جيل
سرقوا فلسطين إسرائيل
راح يدخلوا يغداد العصر
و المغرب راح يدخلوا مصر
يـُحكى أنّ .. أنّ إيه؟
سرقوا بلادنا ولاد الإيه
يـُحكى أنّ .. كان يامكان
سرقوا بلادنا الأمريكان
يـُحكى أنّ .. جيل ورا جيل
سرقوا فلسطين إسرائيل
يـُحكى أنّ .. يا أحفاد
أمريكا دخلت بغداد
يـُحكى أنّ .. ياحلاوة
أمريكا بتضرب بغباوة
*****
حيوا أهل الشام.. يا أهل الله
صابره وهشام.. وما شا الله
كلهم قد صام..  وقد صلى
يا ابو زيد الخيل.. متقلقشى
كلهم قد نام.. مؤدى الفرض
*****
البحر بيضحك ليه
وأنا نازلة أتدلع أملى القلل
البحر غضبان ما بيضحكش
أصل الحكاية ما تضحكش
البحر جرحه ما بيدبلش
وجرحنا ولا عمره دبل
البحر بيضحك ليه
وأنا نازلة أتدلع أملى القلل
***
مساكين بنضحك م البلوة
زي الديوك والروح حلوة
سرقاها م السكين حموة
ولسه جوا القلب أمل
البحر بيضحك ليه
و أنا نازلة أتدلع أملى القلل
*****
راجعين بقلب حديد
راجعين أمل بيزيد
خطر يروح لأمان
شجر يقول أناشيد
راجعين من الماضي
رايحين على المستقبل
بعزمنا الماضي
الدنيا تصبح أجمل
يا حياة يا حريّة
يا روح يا مصريّة
يا عيش وملح وماء
الناس سواسية
راجعين راجعين راجعين يا حياة
راجعين راجعين راجعين للحياة