Sunday 8 July 2012

تدوينتي الأولى!




       أنا مروة وهذه تجربتي الثانية في عالم التدوين!

     بدأتُ بمدونة فراشة محلقة عام 2009، عندما أشار إليّ أحد الزملاء بذلك، أعجبتني الفكرة، فأنشأتُ مدونتي، وسرعان ما غصتُ في هذا العالم المثير.


     اليوم أُودّع مدونتي الأولى، التي صبرت عليّ حتى وصلتُ لدرجة من النضج، وأُكمل طريقي في التدوين بمدونة جديدة وصفحة من الفكر جديدة كذلك، أو على الأقل متنوعة :)

     نقلتُ إلى مدونتي هذه مجموعة من كتاباتي التي أدرجتها في المدونة السابقة، بالرغم من قدم بعضها، وربما رداءة كتابته، أو سطحية فكره، إلا أن أثر تلك الكتابات لا يزال كبيراً في داخلي.

     مدونتي هذه في بداياتها، وتحتاج لجهد طويل ومستمر حتى يصل صوتها، وهذا لا يكتمل إلا بكم أصدقائي :)

Saturday 7 July 2012

هَوَاجِسُ الأَحْلَامِ هِيَ الأَصْدَقْ

من تدوينات مكتوب المرحوم - 2012

      استرقَتْ نظرةً سريعةً إلى المرآة قبلَ أنْ تُغادر المنزل، فوجدت عينَيها تتلألآن، ووجنَتَيها ترتفعان فرحاً، غادرتْ المنزل، فداعبتها في الطريق نسماتُ ريحٍ لطيفة، أخذَتْ نفساً عميقاً ثمّ أكملت المَسِير.

     وصلَت خلال سيرها إلى شارعٍ لطالما أحبّته، فيهِ جسرٌ كلّما نظرت إليه ازدادت رهبةً… الجميع يعبُرْهُ، إلاّ هي، تخشى العُبور، لكن رغبتَها في ذلك تكبُرُ يوماً بعدَ يوم. فعُبورُ ذاكَ الجسر سيُوصِلُها حيثُ الحبيب، الذي أخبرها ذاتَ شتاء؛ أنّ بابهُ مفتوحٌ لها متى شاءت.

     وقفَتْ أمامَ الجِسر للحظات، أطالت النظر إلى أدْراجه، ثمّ وأخيراً صَعَدتْها…

     عبَرَتْ الجِسْرَ إذاً، فقابلها مبنى لها معَهُ ذكريات ليست جميلة ولا سيّئة، لكنّ حاضرها معهُ أخّاذ… دخلت المبنى واتّجهت بحماسٍ إلى مكتب ذاك الحبيب، الذي استقبلها بفتور!

     بقِيت واقفةً، فهو لم يدعُها للجلوس، سألتهُ عن حاله فأجابها أنّهُ بخير، لكنّهُ لم يسألها عن حالها، حتى أنّهُ لم يُثنِ على مظهرها كعادته، ولَمْ يُطِل النّظر إلى عينيها!

     انتابتها رغبةٌ شديدةٌ بالبكاء، سألتهُ إن كانت قادرة على مُحادثته قليلاً، فالشوق داخلها مُشتعلٌ، اعتذر لها، وسألَها الرّحيل، فهو على موعدٍ مع امرأةٍ أكثرَ سِحْراً، وأقلّ تعلُّقاً، والغرورُ يملأُ روحَها.

     التفَتَتْ إلى البابِ استعداداً لمغادرة مكتبه، خَطَتْ ببُطءٍ علّهُ يُنادي عليها كي تعود، لكنّها وصلت إلى الباب مكسورةَ الخاطرِ جارَّةً لأذيالِ خيبةٍ قاسيةٍ اعتقدَتْ أنّها فارقتها، نظرت إليه قبل الرحيل، وقالت والدّمعُ يُزاحمُ مُقلَتَيْها: من هذه اللّحظة؛ أنا أكرهُك… إلاّ أنّهُ لَمْ يُلقِ اهىتماماً لِما صرَّحت به.

     عبرَتْ الجِسْر من جديد، والخذلانُ رفيقُها، الحُزن لَمْ يُشعِرْها بالضوضاء من حولها، إلاّ أنّ صفيراً مُفاجئاً ملأَ المكان، لتفتح عينيها على وهج هاتفها النّقال…

     هي السّاعةُ السّابعةُ صباحاً، حانَ وقتُ الاستيقاظِ إذاً، ولتتبخّر تلكَ الصُّور التي لا تفارقُ أحلامَها مُنذُ لاقَت الحبيب! تناولَتْ هاتفها النّقال، وصبّحت عليهِ كعادتها برسالةٍ نصّية مليئةٍ بالمشاعر…

     لكن؛ إلى متى ستستمرُ تلكَ العاشقة بتجاهُلِ ما يجول في خاطرها من قلقٍ وحيرة؟!   


لَحْظَـةٌ خَاطِفَـةٌ

من تدوينات مكتوب المرحوم - 2012

      إذاً فقد أوفى بوعده؛ اتصل بها البارحة فدقّ قلبُها، وارتعشت أنامِلُها، أجابتْهُ بلهفة، فسألها بشكلٍ مُستعجَلٍ عن حالها وعن أخبارها، ثم اعتذر لها عن غيابه تلك الفترة…

     حدّثتْهُ عن شوقها الدائم له، وعن الحُزن الذي سبّبهُ غيابه، ونقلت لهُ رغبتها بدوام الاتصال بينهُما، فبادلها ذات الشعور بالكلمات، لكن لاوعيَهُ أخبرها بما حاول إخفاءَهُ! أخبرها أنّهُ ضَجِرَ ذاك الحُب الخاطف، وأنّهُ أساساً لا يهوى تلك المُراسلات الغرامية، ولا وقت له لذلك، بالمقابل؛ أكّد لها أنّ تلك اللّحظات كانت تُسعدهُ وتغمُرهُ بالحنان، لكنّهُ الآن غيرُ مُتفرغٍ لها، فالضيقُ يُسيطرُ عليه…

     وقبل أنْ يُنهي المُكالمة؛ اعتذرَت لهُ عمّا سبّبتهُ له من قلقٍ بسبب ملاحقتها الدائمة له، فباحَ لها بحبه، وسألَها عدم التحوّل عمّا اعتادَهُ منها، فشكّت بِصِدْق بَوْحِه، وتَاهَت بالمقصود مِن طَلَبِه، وبِتَبْعاتِهِ إنْ نفّذت..! 

     اسْتَذكرَتْ أنّ الضيق كان رفيقها الدائم، ومع ذلك لم يُبعِدها عمّن اتّخذَتهُ خليلاً، بلْ إنّ حُزنَها وألمَها كانا يتلاشيان كلّما حضرَ طَيْفَهُ، فكيف إن لاقتْهُ!

     لتُدرك؛ تلك التي أرسلت له في أواخر الشّتاء:

· كُلَّمَا دَاعَبَتْ الرِّيحُ وَجْنَتَاي ذَكَرْتُك! أَيُّ سِحْرٍ هَذَا الّذِي أَحْدَثْتَهُ بِوِجْدَانِي؟!

     لتُدركَ أنّ السُحُبَ تبدّدت، وأنّ الشّمسَ بَزَغَتْ، وأنّ المطر كفَّ عن هُطوله، وأنّ ما بَيْنَهُما أقرب ما يكون لبَرْقٍ أَشَعَّ للحظاتٍ ثُمّ اختفى!

     نَعَم هي كذلك اللّحظة المُهيْمِنة على البشر، فيتوهّمُ الجاهلُ لمعناها آمالاً لن تتحققَ إلاّ بالأحلام، أمّا الواعي لها؛ فيتّخِذُها منهجاً لِسَيْر الحياة.

وسط ُعمّان حيثُ الواقعُ يَفيض

من تدوينات مكتوب المرحوم - 2012

      مُدهشٌ تناقضُ الحياة؛ ما هو أساسيٌ لدى البعض، رفاهيٌ لدى آخرين! وبشعٌ جَورُها؛ فكم حرمت أُناساً من أدنى حقوقهم، حتّى جعلت منهُم بشراً غارقاً في العَوز، وكم أغرقت آخرين في رغدهم، فصنعت من حبّ الذّات منهجاً لهم.
     هنا في وسط عمّان، المُكتظة شوارعه بالمشاة سيراً أو على مركبات، والممتلئة أرصفته بالباعة وببضائعهم التي اعتادت الرّكود، وبالمحال ذات النكهة الخاصّة، وبكثيرٍ من المتجولين، وبطائفةٍ من الماكثين القابعين في هامش الحياة، هنا؛ أدركتُ أنّ ما ترصده عينيّ جزءٌ لا يتجزأ من حاضر المكان، جزءٌ يزيدُ هذه المنطقة جمالاً وبهاءً.
     تجوّلتُ في شوارع وسطِ عمّان، ذات التضارب الصّارخ في مكوناتها، بشراً وجماداً، والمُحاطة بجبالٍ تزيدُها ألقاً، لكنّ رائحةً كريهةً ملأَتْ أنفي؛ فتنبّهتُ على بائعٍ يقذف بأكياس قمامة على حافّة الرصيف، وكأنّهُ يجهلُ أنّ تلك السلال على الرصيف المُقابل مخصصة لاحتواء هذه القمامة! ومع الأسف؛ حين تنقلتُ أكثر في شوارع وسط العاصمة؛ أدركتُ أنّ أكياس القمامة المتناثرة هنا وهناك؛ من أساسيات المكان، وأن إلقاءها في السّلال هو الأمر الغريب!
     ثمّ؛ في باحة المسجد الحُسيني؛ لفت انتباهي طفلٌ يُروّجُ لبضاعته، عمره لا يتجاوز العاشرة، لكنّ هيأتهُ وهندامه يوحيان بغير ذلك، وكأنّما قسوة الحياة أعادت عَجْنه، لتستبدل بشاشة وجهه وبراءة عينيه بمظهرٍ عابسٍ واجم.
     اقتربتُ منه، ألقيتُ عليه التّحية، ثمّ سألتُهُ إن كان يذهب إلى المدرسة، فلم يجبني أنه يذهب فحسب، بل أخبرني أنّهُ متفوقٌ بدراسته كذلك، فسألتُه عن سبب غيابه في هذا اليوم، ليجِبني أنّ على والده إنجاز بعض المهام، الأمر الذي جعله يحل مكانه إلى حين قدومه، فهذا مصدر رزقهم الوحيد، وهو رجل المنزل في غياب والده.
     لم أستطع سوى الإعجاب بهذا الطّفل الرجل، ومع ذلك فقد حزنتُ على طفولته المهدورة، هو وغيره ممّن تتشابه حكاياتهم معه، وكم هُم كُثر…
     خلال سَيْري؛ وقع نظري على سيدةٍ تمتلكُ وجهاً نُحاسياً وادعاً، الكهولة باديةٌ عليها من نظرةِ عينَيها وتجاعيدِ يديها، وكذلك من ظهرها المُنحني وهي تسير، تابعتُ خُطاها، فإذا بها تتّخذُ من إحدى المساحات الفارغة على الرّصيف المُزدحم بالمُشاة والبضائع مقرًّا لها، فتجلسُ بكل أريحيةٍ وكأنّهُ مأواها المُعتاد، ظلُّها هو الشّمسُ، أمّا رفيقُها الوفي فهو الجوع، هذا ما استنتجته من جسدها الذائب في ثوبها!
     أكملتُ سيري لكن فكري بقيَ مشغولاً بحال هذه السّيدة، التي تُمثلُّ شريحةً واسعة في وسط البلد، حتى أيقظني من شرودي ضحكُ فتاةٍ ممتلئة بأشكال البذخ، يحيطُ بها فتيات أخريات لا يختلفن عنها، يبدو أنّهن جئن للتنزُه في هذه المساحة الحقيقية من عمّان.
     لم أعجب لهذا التناقض، فهنا الواقعُ ملموس، أُناسٌ يَسْعَوْن جاهدين لنَيْل حقوقهم المشروعة، وآخرين مُتخمين من التّرف، قادمين إمّا للتطفّل، أو للاستحواذ على مزيدٍ من الرفاهية.
     بالفعل؛ حقيقةُ الأمور تتضحُ هنا، حيثُ التآلُفُ والاختلافُ موجودان، حيثُ لا مجال للإنكار أو الكتمان، فهذه هي الحياة؛ ببساطتها المُفرطة، وبإجحافها الآخِذ بالتمادي.
    

اسكندريلا… الذَّاكِرَةُ تَحْضُرُ مِنْ جَدِيدْ

من تدوينات مكتوب المرحوم - 2012

      رسمتُ مُسبقاً حجم الحضور الذي سأُلاقيه في الأُمسية المُتوجهة إليها في دارة الفنون بقلب عمّان، في اللويبدة تحديداً، ثمّ تراءت إلى ذاكرتي صُور آخر أُمسيةٍ حضرتُها في هذه الدّارة، حيثُ كانت قبل ثلاثة أعوام، في تموز 2009، للشاعر الفلسطيني الجميل تميم البرغوتي، هي أمسيةٌ شعريةٌ حضرتُها مع عددٍ من الشّباب الجامعي المتحمّس للهمّ الفلسطيني، كان الجمهور حينها يقارب الـ 1500 شخص، أو يزيد قليلاً، ما جعلني أُنصتُ لأشعار البرغوتي واقفةً لازدحام المكان، مقاعداً وأدراجاً وحجراً، والحقيقة أنّي كنتُ مشدوهة بالحجم الهائل من المُحتشدين، من مختلف الفئات العمرية، ومذهولة بالشّاعر الشّاب الذي جمعهم على اختلاف أطيافهم!

     الأمسية الثانية لي في دارة الفنون كانت قبل يومين، لفرقةٍ مصريةٍ عرفتُها في عالم الافتراض، وبالتزامن مع ثورة 25 يناير، وها أنا اليوم ألمسها على أرض الواقع، إنّها "فرقة اسكندريلا" أو "فرقة الشّارع" التي استقبلها الشّارع الأردني، بمختلف أجناسه، بلهفةِ طفلٍ ينتظر صباح العيد لارتداء ثيابه الجديدة لأول مرّة.

     هذه الأمسية لم يكُن شبابها من الحاملين للهمّ الفلسطيني فحسب، بل هو جمهورٌ أوسع وأعم، جمهورٌ عربيٌ مُجتمعٌ على وحدة الفكرة والهدف في حُقبةٍ مميّزة من الزمان، جمهورٌ لن يجد فرقةً تفوق "اسكندريلا" في العروبة.

     اضطررتُ لخطفِ روحي من نهايةِ ندوةٍ قيّمةٍ تتحدّثُ عن "السُّخرية في ظلّ الربيع العربي" حتى أصل إلى الأمسية في الموعد المُحدد، بالرّغم من هذا؛ وصلتُ متأخرة بعد هروبي من هذه النّدوة التي ضمّت أسماءً تُرفعُ لها القُبّعات احتراماً وتقديراً، ومع ذلك فقد كان حجم جمهورها لا يتعدى عدد أصابع اليدين! ولعلّ هذه أكبر سخرية يُواجهها المتحدثون في الندوة.

     في دارة الفنون وقفتُ من جديد، قرابة الـ 90 دقيقة وكل خليّةٍ من جسدي تستشعر وتقشعرُّ إلى ما تشدو به فرقة "اسكندريلا" صوتاً ولحناً، حتى حلّقتُ إلى عالمٍ مُختلفٍ لم أسمع عنهُ من قبل، شعرتُ معهُم وكأنني أخرُجُ عن صمتي، وكأنني أُمسكُ بحُلُمي.

     في أوجّ غَمْرة السّحر الذي أحدثتهُ بي فرقة "اسكندريللا" تنبّهتُ على نفسي، فتذكّرتُ أنّي "مشروعُ صحفية" وأنّهُ عليّ تشغيل حاسّة "الملاحظة الشّاملة" للمكان الذي أطأ أرضه، ورصْد كل ما يدور حولي، مهما كان…

     بدأت عيناي تتفحّصان الجمهور، كان هائلاً، لعلّهُ زاد عن الألف، لكنّي لستُ متأكدة، فقد فاض الجمهور عن المكان كما في أمسية البرغوتي، مقاعداً وأدراجاً وحجراً، ذاك الحجر الذي كاد ينطقُ من روعة ما يسمع، من بين الجمهور عددٌ لا بأس به من الوجوه المألوفة لدي.

     ترقّبتُ ردود أفعال الحاضرين مما يسمعون ويشاهدون، فكانت ردوداً مختلفة؛ منهم من يُنصت بكامل حواسه، مغمضاً عينيه، مُحرّكاً رأسهُ بانسجامٍ واضحٍ مع الموسيقى، تاركاً روحه تُحلّق، ومنهم من يستمع باهتمامٍ مُصطنع، لا يكفّ عن مراقبة السّاعة، وكأنّهُ حضر مُجبراً لإنهاء مهمّةٍ ما، ومنهم من قتلهُ الفراغ، فجاء ليروّح عن نفسه قليلاً، ومنهم من لا يدري إلى ماذا أتى، هو جمهورٌ فضولي، يميلُ لكلّ جديد، يكتفي بالترقب وتوزيع الابتسامات، وأحياناً ينجحُ بالاندماج، ومنهم كذلك شبابٌ متحمّس بشكلٍ مبالغ، جميلٌ بإقدامه، لكنّهُ خطير ومؤذٍ بسطحيته، سمِع عن فرقةٍ ستغني ضد إسرائيل، فانطلق لحضورها، دون أن يقرأ عنها، أو حتى أن يحفظ اسمها!

     التقطتُ بعض الصُّور التذكارية، وسجلتُ مقاطعاً غنائيةً للفرقة، كما دوّنتُ بعض المشاعر التي اعترتني خلال هذه الأمسية المُدهشة! ممّا دوّنت؛

"منذ أيّام طرأ على فكري خاطرٌ مجنونٌ، وفي هذه الدّقائق أستحضرُ أحداثه بطاقة خفيّة أجهلُ مصدرها، أعتقدُ أنّ لحظاتٍ تفصلُني عن الجنون الذي أنوي تحقيقه"…

     لعلّ تداخل المشاعر جعلني أدوّن كلماتٍ لا أعيها بالكامل، لكنّي سعيدة بهذا الغموض القابل للتحقيق الذي منحتني إيّاه فرقة "اسكندريلا".

     من ترقّبي لمن حولي، وجدتُ كثيراً من الحضور مثلي، بل وأفضل بالفعل، كانوا يلتقطون صوراً، ويسجّلون مقاطع فيديو، ويدوّنون بعض الكلمات، ومعهم كلّ الحق في ذلك، فهذه لحظاتٌ مخطوفةٌ من الزّمن، لا بد من حفظها واسترجاعها فيما بعد، لأنّهُ قلّما تتكرر بكامل ألقها وبهائها كاللّيلة.

     انتهت الأمسية فسلّمتُ على بعض الوجوه التي أعرفها، ثمّ خرجتُ من دارة الفنون وأنا ممتنّةٌ لها لاحتضانها هذه الفرقة السّاحرة، ولاحتوائنا نحنُ المُتعطّشون لقطرة أمل، وشاكرة كذلك لجمعية الحنّونة للثقافة الشّعبية، التي ضمّنت فرقة "اسكندريلا" لفعالياتها التي أطلقتها في الموسم الرّابع من برنامج "حرّاس الذاكرة".

  
* نُشر هذا المقال لأول مرة بتاريخ 18 أيار 2012

     

 أُدرجُ لكُم بعضاً من الكلمات التي تتغنّى بها هذه الفرقة الأخّاذة، ثمّ مقاطعَ غنائية للفرقة سجّلها بعض الحضور:

 يـُحكى أنّ .. أنّ إيه؟
سرقوا بلادنا ولاد الإيه
يـُحكى أنّ .. كان يا مكان
سرقوا بلادنا الأمريكان
يـُحكى أنّ .. جيل ورا جيل
سرقوا فلسطين إسرائيل
راح يدخلوا يغداد العصر
و المغرب راح يدخلوا مصر
يـُحكى أنّ .. أنّ إيه؟
سرقوا بلادنا ولاد الإيه
يـُحكى أنّ .. كان يامكان
سرقوا بلادنا الأمريكان
يـُحكى أنّ .. جيل ورا جيل
سرقوا فلسطين إسرائيل
يـُحكى أنّ .. يا أحفاد
أمريكا دخلت بغداد
يـُحكى أنّ .. ياحلاوة
أمريكا بتضرب بغباوة
*****
حيوا أهل الشام.. يا أهل الله
صابره وهشام.. وما شا الله
كلهم قد صام..  وقد صلى
يا ابو زيد الخيل.. متقلقشى
كلهم قد نام.. مؤدى الفرض
*****
البحر بيضحك ليه
وأنا نازلة أتدلع أملى القلل
البحر غضبان ما بيضحكش
أصل الحكاية ما تضحكش
البحر جرحه ما بيدبلش
وجرحنا ولا عمره دبل
البحر بيضحك ليه
وأنا نازلة أتدلع أملى القلل
***
مساكين بنضحك م البلوة
زي الديوك والروح حلوة
سرقاها م السكين حموة
ولسه جوا القلب أمل
البحر بيضحك ليه
و أنا نازلة أتدلع أملى القلل
*****
راجعين بقلب حديد
راجعين أمل بيزيد
خطر يروح لأمان
شجر يقول أناشيد
راجعين من الماضي
رايحين على المستقبل
بعزمنا الماضي
الدنيا تصبح أجمل
يا حياة يا حريّة
يا روح يا مصريّة
يا عيش وملح وماء
الناس سواسية
راجعين راجعين راجعين يا حياة
راجعين راجعين راجعين للحياة

  


لحظاتٌ خارج أسوار المدينة

من تدوينات مكتوب المرحوم - 2012



      قرّرتُ ذاتَ ربيعٍ أنْ أخطُف نفسي لأُرفرف معها حيثُ الخَضارُ يكثُر والينابيعُ تجري، فوصلتُ إلى مساحةٍ ساحرةٍ، مليئةٍ بالأشجار، وبأصوات العصافير.

     استحضرتُ في ذاك المشهدِ أميراً ملأ روحي بالحياة، فتأملتُ وإيّاهُ جمال الطبيعة المنسيّة، واستنشقتُ معه عطرها الأخّاذ، وتسللّت لأذنينا ألحاناً نقيّة لم أسمع بجمالها من قبل، ثمّ تناجيتُ مع أميري الذي منحني أحلى اللّحظات.


     تلكَ لحظاتٌ عشتُها مع الطبيعة ومع أميري، لن تغيبَ يوماً عن مخيّلتي، فهي دون غيرها؛ التي محَت عنّي جُزءاً من الحزن الذي لا يملُّ رفقتي، فأنعشت روحي لأيّام غير معدودات.

     أخذني في هذه الرحلة الهدوء الذي يأتي بسبب البعد عن ضوضاء المدينة، كما سحرني تراقص الأشجار الشّامخات، ورائحةُ الورود المتناثرة هنا وهناك، لكن؛ ما صدمني، أنّ في الأردن طبيعة خلّابة كهذه، حيثُ لم أتوقع يوماً أنّي أعيش بالقرب من مناطق تعُجّ بالجمال!


     أمسكَ أميري بيدي وأرشدني إلى تفاصيل هذه المساحة من الأرض، سرتُ معهُ طويلاً، كنتُ مأخوذةً بالهواء، وبالسّماء، وبحكاياه المشوّقة. تمنّيتُ أن أظلّ هناك، بعيداً عن البشرِ والآلات، لا أشتمُّ سوى ريح الطبيعة، ولا أستمع إلاّ لألحانها، ووقتي كلُّهُ للتأمُّل في المدى، فالمساحات حيثُ كنت، آخذةٌ بالاتّساع بلا حدودٍ مُرهقةٍ للنّظر.


     هذه هي "عراقُ الأمير" التي لا تتميزُ بجمالها فحسب، بل وبقيمتها الحضارية والتاريخية كذلك، فتضُمُّ قصر "عراق الأمير" الذي بناهُ "هركانوس" من أسرة "طوبيا العمُّونية" في عهد الملك سلقوس الرابع، في القرن الثاني قبل الميلاد، واتّخذت المنطقة المُحيطة به اسمها منه، هذه المنطقة التي ظهرت فيها حضارة الرومان واليونان وغيرها من الحضارات، وسُمّي القصر بهذا الاسم لأنّ مدخله يشبه باب المغارة، أمّا الأمير فالمقصود به "طوبيا"، وهو مَن كان يحكُم المنطقة في تلك العصور.


     تبعد عراق الأمير عن عمّان 35 كم، وتقع على تلال عاليةٍ ومتوسطة الارتفاع، وهي منطقة خضراء تكثر فيها ينابيع المياء، وتشتهر بأشجار الزيتون، بالإضافة للأشجار الحرجية الأخرى، وتحوي تلالها عدداً من الكهوف التي تعود للعهد النحاسي وما قبله.

     انتهت رحلتي في عراق الأمير، فودّعتُ أميري، الذي أخبرني أنّهُ سيشتاق للقاءٍ آخر يجمعنا، ووعدني برحلةٍ أخرى في طبيعةٍ أكثر سحراً، كما أخبرني أنّي أجمل ما في هذه الطبيعة. ثمّ عُدتُ إلى منزلي مأخوذةً بسحر الطبيعة، وكي أُبقي على هذا السّحر لأطول مُدّةٍ ممكنة؛ خلدتُ إلى النّومِ سريعاً، فامتلأت أحلامي بصوت الأشجار المتراقصة، وبتغريد العصافير المُنتعشة بفضل الهواء النّقي.









مُحَاوَلَةٌ لِلْكِتَابَة…


من تدوينات مكتوب المرحوم - 2012

    هي مقابلةُ العمل الثّالثة خلالَ أربعة أسابيع، خرجتُ منها بانطباع أفضل من سابقاتها، أرجو أنْ أكون تركتُ عندهم الانطباع ذاته.
     ها هو الأملُ يتلبسني من جديد… الهواءُ مُنعشٌ في الخارج، أم أنّ فرحتي اللّحظية هي التي تشعرني بذلك، لستُ أدري!
     أمامي ساعةٌ من التخبُّط ثم ألاقي الأستاذ "ناقص هزيمات" كما لقبتْهُ مرآتُه ذات ليلة، لكنّهُ حين صرّح لمن حوله عن اسمه الجديد؛ اتفق الجميع على أن لا يُصدّق المرايا أبداً، فالحقيقة تعاكسها دوماً.
     مضت الساعة وأخيراً، توجّهتُ إلى مسرح عمّون في العبدلي، حيثُ يتواجد الكاتب السّاخر لصحيفة الدستور الأستاذ كامل نصيرات على الدوام، هكذا شعرتُ حين هاتفته لتأكيد موعدنا قبل ساعة، فأخبرني أنّهُ هناك!
     لقائي به سيكونُ للتناقش حول محاولاتي في الكتابة، ولمساعدتي بتحسين أسلوبي، وبالمضيّ قدماً للتميز في هذا العالم المثير.
     غيرُ طبيعيةٍ أزمةُ السّير هذه! لعلّ حادثاً أليماً خلقها، هذا ما تبادر إلى ذهني وأنا في طريقي إلى المسرح، لكن سائق التكسي الذي يقلُني، نفى ذلك حين فتح شباكه لتحية شباب متحمس في سيارة مكتظة، وللدعاء لهم بالتوفيق. هي مباراةُ كرة قدمٍ أخرى إذاً، أكرهُ هذه المباريات، وأفشلُ بفهم عُشّاقها! لا بأس؛ فالاختلاف مطلوبٌ لإكمال الحياة.
     ها أنا أصلُ إلى المسرح، صعدتُ درجات المبنى الذي يضمه، لألاقي الأستاذ كامل وآخرين لا أعرفهم، وقبل أن نجلس للتحدث؛ اقترح عليّ أن نسير إلى دكانٍ صغيرٍ مجاورٍ للمسرح، كي نجلب قهوةً نحتسيها أثناء النقاش.
     اشتركنا بطلبنا للقهوة، لكننا اختلفنا بوجهها، فهو يمقت الوجوه، أما أنا؛ فأحتار برسمها على حسب المزاج، والاختلاف لم يفسد لذّة النكهة.
     عدنا إلى المسرح، كان خالياً إلاّ من بضعةِ أشخاص، جلسنا في مكتبٍ نورُه خافت، أشعلَ سيجارتَهُ، ثم سألني إن كنت أدخن، فلم أعرف كيف أُجبه! نعم أم لا! أم كلا الأمرين، لستُ أدري..! الرغبة تقتلني لنيل هذا الملعون، لكن أعين المنتظرين لكل فعل مثير تترصّد لي وتسجل كل أفعالي، أو بالأحرى؛ تكتفي برصد ما تقرّرُ أنهُ سلبي!
     استمر بالتدخين لوحده، واكتفيتُ أنا باستنشاق المنبعث من سيجارته، وبدأ يحدثني عن الكتابة وفنونها، وعن ضرورة الوصف والتنبيه على أدق التفاصيل، فهي مطلوبةٌ أحياناً، وعن أهمية مواصلة القراءة، والتركيز خلال هذه العملية، ثم قرأ بعضاً من كتاباتي، وتناقشنا بشأنها، وأخيراً طلب مني كتابة كلماتٍ تصفُ ما دار بيننا بأسلوبٍ مختلف عما اعتاده بكتاباتي السابقة.
     منحني وقتاً لإنهاء الكتابة، ثم وقف وتوجه إلى حشدٍ من الوجوه كانت قد ملأت المسرح، وتركني وقلمي والخوفُ من إخفاقٍ جديد يملأُ مخيلتي.


الأحد- 6/ 5/ 2012
    

أَمَـلٌ لَحْظِـيّ




من تدوينات مكتوب المرحوم - 2012

     تسعى لإضاءة النورِ لهُم، على أمل أن ينعكس جزءٌ منهُ على أيّامها الراكدة، تُنصتُ إلى معاناتهم بإحساسها الحزين، فتُصور تلك المعاناة بكلماتٍ صادقة، علّها تَصلُ لمُبادرٍ ممتلئٍ بالإنسانية، فيمسحَ بإنسانيته سَيْل عبراتٍ مستمرةٍ بالانهمار على خدودٍ سلَّمَت لهُ الطريق.

     وفي أحيانٍ كثيرة؛ تحدُثُ تلك المُبادرة، فتنتَعشُ الأنفسُ بأملٍ سُرعانَ ما يَجِف! فجميعُها مبادراتٌ آنيّةٌ لا تُثيرُها سوى المُناسبة، أو الكلمة المؤثرة!

     بوركوا لإنسانيتهم اللّحظية التي أشعلت النُّور في أعيُنٍ خافتة، ورسمت ابتسامةً مؤقّتةً على وُجوهٍ بائسة.

     ليَعُمّ الظلامُ من جديد، على الإنسان اللّحظي، وعلى البائس القابع في بؤسه، بَل وعلى عطائها الذي أصبح صِدْقُهُ مشبوهاً في أعيُن هؤلاء البؤساء.
     فهي بنظرهم؛ صاحبُ القرار الذي سيَنْتشلهم من الجحيم، لكنّها ليست إلاّ وسيلة ضعيفة لإيصال صوتهم، وسيلة غابَ عنها الأملُ منذ فهمت عُمْق اللّحظيّة المُسيطرة على البَشَر.

     فَوَعَت أنّها بائسةٌ تكتُبُ عن البؤساء! وأنّ دَفْن الأمل أفضل بكثير من إشعالِهِ للحظات!

يا ليتهم يدركون




من تدوينات مكتوب المرحوم - 2011

      اللّيلة طلبت مني والدتي النوم مبكراً، فلبيتُ طلبها رغبةً برضاها الذي أُنشده!

     مع والدتي تتعدد أشكال التوبيخ والسبب واحد، إنه السهر ليلاً! تحاولُ بلا مللٍ إزالة هذه العادة الملازمة لي منذ الصغر، لكن؛ كما هي لا تمل المحاولة، فأنا كذلك لا أمل الرفض.
     ليس عناداً، ولا عشقاً، ولا انطواءً عمّن حولي، كما يحلو لها الوصف! لكنّي أهوى الليل بكل ما فيه من سكونٍ وصفاء، وهيبةٍ وإجلال..

     ينام من حولي وأنا لا أزال بأوج يقظتي، أنهي الأعمال المتراكمة علي بنشاط، ثمّ أُرَفه عن نفسي بالولوج إلى أحد العالمين؛ إمّا الورقي أو الإلكتروني.. وأخيراً أتأمل الكون وما يضمه من عجائب! ثمّ أعود إلى ورقي فأغفو عليه.
     تستيقظ فجأةً والدتي، فتتنبه عليّ وأنا مستغرقة بأحد الأنشطة، فترمقني بنظرة متوعدة، أو تسمعني كلمات متكررة، وأحيانا تكون لطيفة، فتطلب مني برقة ألاّ أطيل السهر، فأومئ لها بالإيجاب وعينيّ تتأمل جمالها الأخّاذ! لكن نيّتي تكون الإطالة في السهر.

     إلاّ أنّي قرّرت الليلة الامتثال لرغبتها، فودّعتُ غرفة المعيشة، وصديقتي النافذة، وممتلكاتي المتناثرة، وتوجّهت إلى غرفتي المتشبعة بأنفاس أختي التي سبقتني إلى النوم بساعات.
     نفّذت طلب والدتي ويا ليتني لم أفعل! فمحاولة النوم باءت بالفشل، بسبب أصواتٍ تسلّلت إليّ من نافذة الغرفة، فأرهقت قلبي مفرط الإحساس!
     توجّهت إلى النافذة، فتحتها ومددتُ رأسي، سمعت رجلا يصرخ، وامرأة تئنُ حيناً وتنادي أولادها حيناً آخر، ورضيع بكاؤه يملأ الكون! هذه الأصوات تصعد لي من الأسفل؛ إنّهم المستأجرون الجدد! رجلٌ وزوجته وطفلان كالقمر. ثلاثةٌ أسمعهم الآن، وواحدٌ مجهولةٌ حالته!

     داعبني الهواء بقسوة، فتركته عائدةً إلى سريري، لكن ضجيج الجيران طيّر النوم من عيوني!
     عدتُ إلى النّافذة؛ الزوجةُ لا تزال تنادي أولادها بصوتٍ متألمٍ مُصِرّ، والزوج لا يزال على صراخه، والرضيع مستمرٌ بالبكاء، والفضول يقتلني لمعرفة حال الطفل الثاني!

     صوت حركةٍ، وكأنّ الزوجان يجريان خلف بعضهما، والأبواب تُطرق بقوّة، والرضيعُ يبحث عن منجدٍ يجيب نداءه!
     ماذا يحدث أسفلي؟! وماذا عساني أفعل؟! أأنام؟ أم أعود لسهري؟ أم أستدعي من ينقذ الزوجة والطفلين؟! لا! لا شأن لي! لكن ضميري يؤلمني، وعيناي تدمعان..
    
     صوت الزوج الوحشي، وحركاته العنيفة، جعلاني أشعر أنّ مصيبةً ستَحُلّ! لم أتمالك نفسي، توجّهت إلى سريري وأجهشتُ بالبكاء، تمنيتُ لو يستيقظ عليّ أحدٌ ويشاركني خوفي، لكن الجميع نِيام، وأنا الشاهد الوحيد على الجريمة التي قد تُرتكب في الأسفل!
     كم هي فكرةٌ مرعبة أن يصابَ أحدٌ ممن أسفلي بمكروهٍ ما! حينها لن أسامح نفسي على الإطلاق..
  
     في هذه الأثناء سمعتُ صوت سيارة إسعاف، انزرعتُ أمام النافذة، وراقبتُ عن كثب، رأيتُ رجلان يدخلان بيدهما سرير نقلٍ للمصابين، ويخرجان والزوجة ممددةٌ عليه، ورجل يلحقهما فيخرج وبين يديه رضيع لا يزال يبكي، يتبعه طفلٌ في الخامسة من عمره بثيابٍ ممزقة! انتظرتُ خروج الزوج، لكن السيارة انطلقت والزوج لم يظهر!
     عدتُ إلى سريري والمشهد الأخير لا يفارقني، والريبةُ باختفاء الزوج تؤرقني!
   
     اقتحمتْ ذاكرتي رسالةٌ وصلتني من أحد قرّائي قبل فترة، يستهجنُ فيها تحاملي على الرجل في كتاباتي، ويدّعي أنّي أظلم الرجال وأبالغ بالصفات التي أنسبها لهم! وينهي رسالته بتنبيهي إلى أنّ الرجل هو أبي، وأخي، وزوجي، وابني.
     نعم؛ لي أبٌ حنونٌ أشتاقُهُ كلّ يومٍ أكثر، وأخّان أفخرُ بهما، وأعرفُ رجالاً تُرفع لهم القُبّعات تقديراً واحتراماً.
     لكنّي للأسف أقرأ، وأسمع، وأشاهد أضعافاً مضاعفةً من ذكورٍ أقرب إلى الوحوش بتصرفاتهم!
     سيتساءلُ أحدكم بعجب؛ وهل النساء ملائكةُ الله على الأرض؟! سأجيب؛ بل هُنّ مخلوقات ضعيفة بحاجة لرعايةٍ خاصّة، يجهلها غالبيتكم!

     يا ليتكم لو تدركون أيّها الذكور؛ أنّ للرجولة عليكم حق…


كَسَحَابَةٍ مُمْتَلِئَةٍ




من تدوينات مكتوب المرحوم - 2011

      في سماء الكون وُجِدت سحابةٌ تحوم، باحثةً عن أرضٍ تسقيها من خيرها. استمرت رحلة بحثها أسابيعَ لم تجد خلالها الأرض المناسبة، كانت كلّ مرة تعثر فيها على أرض؛ تتفحصها، فتكتشف أنها لن تحقق أهدافها.

     يوماً تجد أرضاً مثمرةً مكتظةً بألوان الحياة، لا تطلب سوى سُحب بسيطةٍ بعطاياها، خفيفةٍ بتواجدها، ويوماً تجد أرضاً مزهرةً جميلةً كصبيةٍ بربيع عمرها، تحتاج لرذاذ من الخير بين فترات متباعدة، ويوماً تجد أرضاً دائمة الهيجان، بحاجة لسُحبٍ عظيمةٍ تُهَدئ ثورتها، وتحافظ على المتبقي من كنوزها.

     لَم تيأس السحابة، كانت واثقةً من أنها ستجد الأرض المناسبة لمكنوناتها، طلبت من الهواء أن يدفعَ بها بعيداً علّها تجدُ ضالّتَها.

     وصلت إلى أرضٍ مُضطربةٍ، ممتلكاتُها مُدَمّرةٌ، فسألت عمّا أحالها إلى ما هي عليه، فعلِمت أنّ سُحُباً أخطأت التخطيط فأصابتها بفيضانٍ عنيف. فابتعدت حزينةً تُحَركها جزيئات الهواء، حتى وصلت إلى أرضٍ بحرُها حزين، وزرعُها يصارعُ من أجل البقاء، فسألت عن حكاية هذه الأرض، فأخبرتها حمامةٌ عازمةٌ على الهجرة، أنّ أنشطةً بشريةً تفاعلَ نِتاجُها في الجوّ مكوناً أحماضاً ضارّةً اتخذت قطرات المطر مخبأً لها، ثمّ البحيرات والأشجار والتربة فريسةً لسمومها.

     صَعُبَ على هذه السحابة البقاء في أجواءٍ كهذه، فهي وحدها عاجزةٌ عن مساعدة هذه الأرض، وحولها السماء فارغة من أي سحابةٍ قد تتعاون. نَقَلَها الهواءُ إلى أرضٍ خاليةٍ من مظاهرِ الحياة، تُحيطُ بها سُحُبٌ بحاجةٍ لِمن يُوَجِّهها، غمرتها السّعادة، وأخيراً سَتُفَرّغ ما بداخلها على هذه الأرض، وتُراقب بعد ذلك أثر فعلتها، لكنّها صُدِمَت بالفرق الهائل بين حجم الأرض وحجم ما تَقدرُ على منحه.

     اقترحت عليها سحابةٌ كانت تراقبها بهدوء، أن تتّحد معها ومع صديقاتها، علّهُنّ يزرَعْنَ الأرض بخيرهن،  وسُرعان ما التحفت السحبُ السّماء، وانهالت بمكنوناتها على الإنسان المنهك، والحيوان الظمئ، والنبات الحزين.

     أقلامُنا تتشابهُ إلى حدٍ كبيرٍ مع السُحُب، لكنّها تتميزُ عنها بأمرٍ عظيم، ألا وهو استطاعتُنا السيطرة عليها. لكنّ بعضنا يفقِدُ السيطرة أحياناً، أو ينسى مدى ملاءمة ما يَضُخُّهُ قَلَمُه مع مستوى وعي المجتمع.

     هنالك كتاباتٌ كالأمطار الربيعيّة، تُعيدُ الحياة لما حولها، لكنّها بحاجة لاستمرارية، مصدرُها أقلامٌ وَعَت حاجةَ مُجتَمعِها، وهنالك كتاباتٌ تماماً كالأمطار الحمضية، سامّةٌ لما حولها، قاضيةٌ لمن يتبنّاها، مَصدرُها أقلامٌ مأجورةٌ مُلَوّثةٌ. ويوجدُ كتابات بحاجةٍ لجيلٍ أو أكثر حتّى ينبُت أثرها، كبعض الأشجار، مصدرها أقلامٌ سبقت زمنها بفكرٍ راقٍ لَم يعيهِ المجتمع، فَنَبَذَهَا، لكنّ المستقبل سَيُعيدُ ذكراها وسَيَسيرُ على خُطَاها.

وَطَنٌ أَعِيشُ بِهْ… وَآَخَرٌ يَعِيشُ دَاخِلِي





من تدوينات مكتوب المرحوم - 2011

     اعتدت الحنين إلى الوطن، خصوصا حين ينتابني شعور الوحشة من البشر، وكأن وطني يهمس لي: اجعليني قضيتك أكون مصدر راحتك.. هبيني حبك الذي تُغدقي به على من حولك، أكون مصدر سعدك، وأُعَثِّرُ بطريقك من يستحقك. وهذه الأيام أنا أحن إلى الوطن، وحين أحن إليه؛ أستمع إلى أغانيه وموسيقاه، وأتأمل صوره فأسحر بطبيعته، وأقرأ عنه أكثر وأكثر، وأعقد العزم على عودة قريبة.
     كثيرون يسخرون من مشاعري هذه، ويعتبروني قادمة من عالم الأحلام، ويقولون لي: نحن عشنا بهذا الوطن الذي تتنغمين باسمه، ولا نشتاقه ولا نرغب بالعودة إليه، ونحن أكيدون أنك لو ذقتِ ما ذقناه هناك لما لفظت اسمه حتى.. هل فقدنا عقولنا حتى نترك راحتنا هذه ونذهب حيث الدمار والخراب؟!

     كلماتهم تؤلمني، فها هم أقرب الناس إليّ يتنكرون للوطن! ولطالما حاولت تعديل نمط تفكيرهم، لكنّي سئمت من ذلك، وآثرت الصمت، فأذنيّ أرهقتهما كلماتهم القاسية عن حبيبي الوطن.

     إذاً؛ فَلِحَنيني طقوس خاصة، أبدؤها بالعزلة عمّن حولي، فأنتقل إلى العالم الآخر، وأغوص بالمواقع التي تُشبع حنيني، فأقرأُ حيناً، وأناقش أحدهم حيناً آخر، وأنشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي ما يثير العواطف باستمرار، طبعا دون نسيان الخلفية الموسيقية الملازمة لنشاطاتي تلك. وما أعذب موسيقى الوطن، خاصّة حين يرافقها أصواتٌ بإرادتها حنان، كصوتَيّ مارسيل خليفة، وأحمد كعبور.

     من باب الفضول لا أكثر، اعتدت على قراءة التعليقات التي يدرجها الزوار أسفل المواضيع على مواقع الإنترنت، سواء المكتوبة أو المرئية، ولطالما أزعجتني تلك التعليقات البعيدة كل البعد عن الرقي بالحوار الذي أحلم به بين البشر.

     وفي يوم قريب، وأنا أقرأ التعليقات على أغنية وطنية لبلد عربي تعمّه الفوضى هذه الأيام، أثارت قرفي تعليقاتٌ سخيفةٌ متتاليةٌ لأشخاص من ذاك البلد يتهجمون بها على شخص عربي من بلد مجاور، فقط لأنه أبدى رأيه حول أحداث بلدهم فقال: ألم تسأموا من هذا الحاكم المستبد؟! هيا اذهبوا وثوروا مع أشقائكم في الشوارع، لا تجعلوهم أقلية بسبب رعبكم! كفاكم نفاق! فرصتكم الآن لإسقاط نظام لطالما دمّركم!

     وانهالت على ذاك المسكين الشتائم بشتى أنواعها، وبدأت كلمات العنصرية تظهر بقوة بين أبناء ذاك البلد ضد صديقنا المتحمس للحرية، ما جعل القشعريرة تدُب في جسدي، والأسئلة تتسارع إلى ذهني، أين نحن من العروبة؟! ومن الدين؟! ومن العادات والتقاليد المتشابهة لأبعد الحدود؟!

     ذاك المسكين من بلد والدي، وهؤلاء المرعوبين من بلد والدتي، إذاً نحن شعوبٌ متقاربة! وعائلاتنا متجانسة ببعضها البعض! ولا يزال بيننا من يبحث عن وسيلة للتفرقة! تذكرت على الفور أهلي بذاك البلد، كم أحبهم، وكم أنا أكيدة من حبهم لي، وتذكرت قريب لي من بلد عربي آخر، وهو إنسان رائع، لطالما تمنيت أن يهبني الله رجلا مثله، تذكرت كذلك مجموعة أقارب لي في بلدٍ عربيٍ تحرر مؤخرا من حاكم ظالم، كم خفنا عليهم حين ثورتهم، وكم فرحنا لهم حين نصرهم، تذكرت أيضا معلمات طفولتي في البلد العربي الذي ترعرعت به، وصديقاتي اللاتي اختلفت جنسياتهم واتفقت عروبتهم.

     تُفَرّقنا اللهجات، والقليل من العادات، تماما كأولاد العم، لكن ما يجمعنا أعظم بكثير مما يفرقنا.

     سأنهي كلماتي بالحديث عن أبناء وطني؛ نحن شعبٌ طُرِد من أرضه بعد أن احتلها عدوٌ قاهر، ثلّةٌ بقيت في الأراضي، وكم أغبطهم على ذلك بالرغم مما يعانون، وغالبيةٌ عظمى هُجّرَت بالإكراه، عائلتي منها.

     استضافتنا الدول العربية المجاورة ورحبت بنا، عشنا بها ولا ننكر فضلها، فهي الدول التي آوتنا وخففت ألمنا. لكننا لن نمسح وطننا المسلوب من ذاكرتنا، فهذا ما نشأنا عليه.

     سنغني له باستمرار، وسنبقي خريطته على جدران منازلنا، وسنتحدث عن تاريخه لأبنائنا، وسنَطْمَئن بين فترة وأخرى على مفاتيح ديارنا التي اشتاقتنا، وسنُحَرّض على الجهاد من أجل العودة.

     لن نُحَرّض ضد بلدٍ عربيٍ يأوينا، وإنما ضد عدُوٍ شرّد الآلاف منا.

     يا وطني العربي الذي يستضيفني؛ أعشقك وأحنُّ كلّ يومٍ لوطني، أفخر بكَ وأحارب من أجل وطني، أعيش بكَ وأعمل لأجلك، ويعيشُ داخلي وطني الذي ينتظر عودتي.

* نُشر هذا المقال لأول مرة بتاريخ 19 نيسان 2011