Sunday 24 April 2016

وثائق بنما: تسريبات ضخمة توحّد الصحفيين وتطلق تحقيقات عابرة للحدود

بدأت الحكاية بتسريبات وصلت لصحيفة "زود دويتشي تسايتونج" الألمانية من شخص مجهول، تُظهر هذه التسريبات فساداً مالياً عالمياً يشارك فيه قادة دول، سياسيون، موظفون في الأمم المتحدة والاتحاد الدولي لكرة القدم "الفيفا" بالإضافة إلى رياضيين وأبناء أصحاب نفوذ من حول العالم.
لاحظت الصحيفة وجود مشكلة، قدّرت حجم الخطر، استعانت بالاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين ICIJ في أميركا، فوحدها لن تتمكن من التعامل مع 4.8 مليون بريد إلكتروني، 3 ملايين قاعدة بيانات، أكثر من 2.1 ملف بي دي إف، وأكثر من 1.11 مليون صورة ونحو 320 ألف وثيقة نصية، قام ICIJ بدوره بالتشاور مع أعضائه، من بينهم مؤسسة أريج للصحافة الاستقصائية العربية.
11.5 مليون وثيقة مسرّبة من شركة موساك فونسيكا، وهيشركة محاماة تقع في جمهورية بنما، إحدى دول وسط أميركا الجنوبية، مهمتها تقديم خدمات تأسيس شركات في المناطق ذات الضرائب المنخفضة أو التي لا تطلب ضرائب "الملاذات الضريبية" مثل سويسرا، قبرص وجزر العذراء البريطانية، وفي مناطق التاج البريطاني مثل جيرنسي، جيرسي وجزيرة مان.
عادةً ما يلجأ إلى هذه الشركات أصحاب الأموال في البلدان التي تفرض ضرائب عالية، أو من يخشون على أموالهم في بلدان مليئة بالمافيات، ولكن، هناك من يلجأ لهذه المكاتب لتغطية حجم ممتلكاته أو لإخفاء الأعمال غير المشروعة التي يقوم بها.
صحفيون من حول العالم يحققون في وثائق بنما
التقت شبكة الصحفيين الدوليين مدير فريق وحدة الصحافة الاستقصائية في راديو البلد وموقع عمّان نت الصحفي مصعب الشوابكة من الأردن، أحد الصحفيين المشاركين بحملة التحقيق في وثائق بنما المسرّبة منذ عام 1977 ولغاية عام 2015، والتي تعد أضخم عملية تسريبات في العالم.
تحدث الشوابكة مع شبكة الصحفيين الدوليين عن آلية العمل التي تم الاتفاق عليها بين ICIJ والمؤسسات الإعلامية المشاركة من حول العالم، وكيف انطلق بعد ذلك الصحفيون برحلة بحثهم وتقصّيهم للوثائق التي تسرّبت إليهم:
1-تسليم الصحيفة الألمانية للوثائق التي وصلتها من مجهول مطلع عام 2015 إلى ICIJ.
2-تبنّي ICIJ الموضوع وطلب الاجتماع بـ 110 صحفيين حول العالم.
3-اختيار الصحفيين بناءً على شروط معينة، من ضمنها مهنيتهم وانخراطهم بالعمل الاستقصائي في بلدانهم.
4-وصل عدد الصحفيين المشاركين فيما بعد لـ 370 صحفياً من 100 مؤسسة إعلامية في 80 دولة.
5-عُقدت الاجتماعات والاتفاقات بشكل سري للغاية.
6-استلم الصحفيون الوثائق المتعلقة ببلدانهم، وانطلقوا بشكل سري في عملية البحث والتحقق من صحة ما ورد في الوثائق وما إن كانت فعلاً تدين أصحابها.
7-يوجد منصة إلكترونية سرية يتبادل عليها الصحفيون المعلومات، ويضعون عليها كل ما يتوصلون إليه، كما يبقون على تواصل من خلالها مع ICIJ.
8-حدّد ICIJ ساعة بتاريخ معيّن لبدء النشر والبث فيه.
9-ما تم نشره وبثه حتى الآن ليس إلا آلاف من الوثائق، وعلى مدار الأشهر القادمة سيتم نشر وبث المزيد من الوثائق التي تم التحقيق فيها.
10-يوجد دول، كالسعودية مثلاً، لم يكن فيها مندوبين، فتعامل مع قضاياها مركز ICIJ بشكل مباشر.
11-لجأ الصحفيون في كافة تحقيقاتهم إلى اتباع قانون حق الرد، حيث توجهوا إلى المتهمين وطالبوهم بتبرير ما تم إثباته ضدهم.
التأكد من مصداقية الوثائق
يقول الشوابكة إن الحجم الهائل للوثائق التي وصلت يدل على عدم تزييفها، فقد وصلت بتسلسل رقمي وزمني يصعب تلفيقه، كما أنها احتوت على تواقيع واضحة يمكن التأكد من صحتها بكل سهولة، ومع ذلك، يؤكد الشوابكة على أن تسريب الوثائق وحده لا يكفي للإدانة، بل يتبع ذلك جهد إستقصائي كبير، يتم خلاله التأكد من صحة الوثيقة والتقصي لإظهار ما إذا كان هنالك إدانة من ورائها، فليس بالضرورة أن تكون جميع الأسماء المذكورة بالوثائق مدانة.وحول هوية الشخص الذي سرّب الوثائق، يقول الشوابكة إنه هذا ليس مهماً دائماً للصحفي، فالأهم أن هذه التسريبات صحيحة وتكشف فساداً.
فردوس خالد شاهين المجهول، هو التحقيق الذي قام به الشوابكة وعماد الرواشدة من الأردن، كشف عن ملابسات تتعلق باستثمارات رجل الأعمال الأردني خالد شاهين داخل البلاد وعلاقتها بنحو 26 شركة مسجلة في ثلاثة ملاذات ضريبية آمنة حول العالم، وكيف دخلت بعض هذه الشركات في عطاءات حكومية رئيسية مثل توسعة مصفاة البترول، وجر مياه الديسي، التي أثبتت الأولى لاحقاً تورط عدد من مسؤولين في الدولة الأردنية في الملف.
وكشف التحقيق عبر تتبّع الشركات التي يساهم فيها شاهين داخل وخارج البلاد عن الأسلوب الذي يعتمده لتجنب دفع جزء من ضرائبه بطريقة قانونية وتحويلها خارج البلاد.
تقوم الفكرة على تأسيس شركة داخل الأردن وتوزيع أجزاء بسيطة من أسهمها على المالكين المصرح بأسمائهم في السجل التجاري، فيما تسجل حصة الأسد من تلك الأسهم باسم شركة مسجلة في ملاذ ضريبي آمن خارج البلاد، يضمن عدم الكشف عن هوية المالك الحقيقي.
ردود أفعال دول العالم والدول العربية حول الوثائق
اختلفت ردود الأفعال حول العالم بخصوص الوثائق، ففي حين قامت سلطات الضرائب في أستراليا ونيوزيلندا بتحرّي أمر عملاء محليين لمؤسسة قانونية وردت أسماؤهم في التسريبات، تم فصل الصحفي العراقي منتظر ناصر بعد نشر تحقيقه عن فساد رئيس الوزراء العراقي الأسبق إياد علاوي.
وبينما قدّم رئيس وزراء آيسلندا ديفيد سيغموندور غونلوغسون استقالته على إثر تورطه بمخالفات مالية بحسبة وثائق بنما،رفضت الجزائر منح تأشيرة دخول لصحفي فرنسي بسبب مشاركته بتسريبات بنما وتناوله موضوع الجزائر.
بالمقابل، كانت تونس، الدولة العربية الأولى التي تحقق في وثائق بنما، في وقت اعترف فيه رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون بأنه أخطأ بطريقة تعاطيه مع وثائق بنما، وقال إنه سينشر عائداته الضريبية للعام الحالي والأعوام الماضية.
فيما طالبت المجموعة العربية الاستشارية للشفافية الحكومات العربية بفتح تحقيقات فورية حول تسريبات بنما.
وحول ردود الأفعال هذه، يقول الشوابكة إننا للأسف نعمل في ظل حكومات غير صديقة للإعلام، فبدل أن تتحرك بحملات قضائية، اكتفت بالتجاهل أو الإنكار.


*تجدون التقرير كذلك على الموقع الإلكتروني لشبكة الصحفيين الدوليين ijnet:

Wednesday 13 April 2016

الأطفال في عزلة الحواسيب اللوحية

ما إن دخلت سارة (22 عاماً) أحد المطاعم الشهيرة في عمّان برفقة شقيقها الذي يصغرها بعشرة أعوام حتى عاد بها الزمن إلى أيام طفولتها، لتقارن بين طفولة جيلها وطفولة جيل أخيها.

تقول سارة "في الماضي كانت الألعاب الجماعية التي توفرها المطاعم أو الموجودة في الحدائق العامة تجمعنا بأبناء جيلنا، لنلعب معا بمرح كأننا نعرف بعضنا منذ زمن، لكنني الآن لم أعد ألحظ أي طابع جماعي في ألعاب الأطفال، إنهم يميلون إلى العزلة والهدوء، فبأيديهم أجهزة لوحية تكفيهم وتغنيهم".

وتضيف "حتى أن أحد المطاعم وفّر -بالإضافة إلى الألعاب التقليدية- قسماً خاصاً بالأجهزة اللوحية، التي جذبت أنظار الأطفال إليها، وأسهمت في ترك الألعاب التقليدية فارغة".

يشبّه المستشار الاجتماعي سيد الرطروط التغيرات التي طرأت على تصرفات الأطفال بالعدوى التي وصلتهم من أسرهم.

حيث يقول إن منظومة التواصل بين الأهل وأبنائهم تراجعت بسبب التطور التكنولوجي الذي طال الجميع، مما جعل الأطفال يجدون أجهزة جديدة تغنيهم عن أهاليهم المشغولين عنهم بأجهزة شبيهة.

في المطعم ذاته، التقت مجلة الجزيرة أسماء (العشرينية) التي كافأت ابنتيها (خمسة أعوام وثمانية) بإحضارهما لتناول وجبات الطعام التي يحبانها، ومن ثم اللعب على الأجهزة اللوحية التي يوفرها المطعم.

تقول أسماء إنها تحاول قدر المستطاع تقليل فترة لعب ابنتيها على الأجهزة اللوحية، لأن انغماسهما في اللعب عليها يزيد انطواءهما وتحولهما إلى فتاتين عدائيتين في حال غيابها.

منى (33 عاماً) أم لثلاثة أطفال، لاحظت كذلك انجذاب أبنائها إلى الأجهزة اللوحية أكثر من أي لعبة تقليدية أخرى، الأمر الذي جعلهم يجهلون كيفية اللعب الجماعي.

تقول منى "للأجهزة اللوحية أثر إيجابي كبير على الرغم من السلبيات الكثيرة التي تحيط بها وتؤثر على أطفالنا"، حيث لاحظت أن هذه الأجهزة ساعدت في تنمية إدراك أطفالها في وقت مبكر لم يكن ليحدث مع أطفال من أجيال سابقة، كما أنها ساعدت في منح أطفالها قسطاً من الهدوء.

يؤكد ذلك الرطروط، حيث يقول إن الأجهزة اللوحية تزيد ذكاء الأطفال ومدى تفاعلهم، لكنه يصرّ على ضرورة رقابة الأهل على جميع حركات الأطفال عليها.

وهذا ما أكدته منى التي تحافظ على متابعة ما يفعله أطفالها، وتخصيص ساعات محددة لاستخدام هذه الأجهزة، كي لا تتحول إلى إدمان وتؤثر سلباً عليهم، وليكون لديهم وقت آخر للعب التقليدي وممارسة حياتهم الطبيعية.

وفي ما إن كان استخدام هذه الأجهزة يزيد مستويات العدائية لدى الأطفال، تقول منى "لاحظت على ابني الأكبر بعض التصرفات العدائية، وهذا يعود إلى نوعية الألعاب
والبرامج التي يختارها، فهو يحب اللعب بالديناصورات كثيراً، الأمر الذي يجعله يطبق حركاتها على إخوته الأصغر بمجرد تركه جهازه اللوحي".

مضيفة "بشكل عام، تزيد نسبة العنف عند كافة أبنائي إن زادت فترة جلوسهم على الأجهزة اللوحية أو إن غابت عنهم كلياً، لذلك أحاول تخصيص وقت محدد لاستخدام هذه الأجهزة وتعويدهم على عدم التعلق بها وخلق بدائل كثيرة لهم".

من خلال تجربة الثلاثينية حنان مع أبنائها، لاحظت وجود الكثير من الألعاب غير المدروسة التي تعتمد على العنف أو السرعة المبالغة لتخطي مراحلها، مما قد يؤثر بشكل سلبي على قدرات الأطفال ويفقدهم التركيز في ما حولهم.

تقول حنان "أحاول إبعاد أطفالي عن الألعاب المضرة، لكنهم بشكل أو بآخر يلعبونها"، مضيفة "ابني (سبعة أعوام) يصرّ على تحميل ألعاب العنف، فهو متعلق بها بشكل لا يوصف، الأمر الذي جعلني بعد فترة من لعبه ألاحظ تغيراً على أسلوبه في التعامل مع أخيه الأصغر (خمسة أعوام)، حيث أصبح يميل إلى الضرب خلال لعبه معه، وإلى فعل حركات غريبة في الهواء مع إطلاق تسميات غريبة لكل حركة".

بالإضافة إلى ذلك -تقول حنان- إن هذه الأجهزة أفقدت الأطفال بشكل عام قدراتهم على التواصل والتحاور مع بعضهم ومع من حولهم، حيث جعلت مستوى ذكائهم الاجتماعي يتدنى، وجعلتهم يميلون إلى الانفراد خلال لعبهم.

وتواصل حديثها "كان أبنائي وأولاد عمومتهم يلعبون معاً باستمرار، لكنهم أصبحوا الآن يجلسون معا دون أي تواصل، ففي يد كل واحد منهم جهازه اللوحي، الذي حرمهم من متعة التواصل وتبادل الخبرات". و"أعمل جاهدة على إبعاد أطفالي عن هذه الأجهزة، لكن التحدي صعب وكبير في ظل انتشارها الواسع وسحرها عليهم".

وفي هذا الخصوص، يقول الرطروط إن الأجهزة اللوحية سلاح ذو حدين؛ فهي قادرة على رفع مستويات الذكاء لدى الطفل، وتدميره ورفع مستويات العدائية لديه أيضا، وذلك يعود لرقابة الأهل، ومراقبة سلوكه الناجم عن استخدامها لدراسة أسبابه ومعالجته.


وفي ظل الانتشار الواسع للأجهزة اللوحية بين الأطفال، يبقى السؤال الأهم الذي لا بد من الالتفات إليه هو: هل ستغير هذه الأجهزة فطرة الأطفال التي كانت تجري خلف كرة القدم أو تنطلق إلى الأرجوحة أو تختار لعبة جماعية "كالاستغماية" بفطرة ميّالة إلى الوحدة وبعيدة عن روح الجماعة؟



*تجدون التقرير كذلك على الموقع الإلكتروني للجزيرة نت: