Monday 24 September 2012

الحرب أكذوبة يدفع ثمنها الأجيال





    
  عامٌ ونصف العام ونهر الدماء لم يجف بعد في سوريا الحبيبة، بل هو بازدياد، في بدايات الثورة تحمّستُ كثيراً، وشاركتُ دون أن أخبر أحداً من أهلي باعتصامات ضد النظام أمام السفارة السورية في عمّان، بل ونشرتُ عبر مواقع التواصل الاجتماعية الكثير من الأخبار والمقالات ومقاطع الفيديو ضد النظام السوري، ما دعا أفراداً مقرّبين من عائلتي في سوريا إلى مقاطعتي عبر هذه المواقع. كما أنّي حاولتُ الانضمام إلى إحدى القنوات السورية التابعة للجيش الحر للتطوّع معهم، لكنهم، وربما لحسن حظّي، رفضوني بحجة أني لا أملك الجنسية السورية، حاولت إقناعهم أن والدتي سورية وهذا يكفي، لكنهم رفضوني كذلك.


     كنتُ مؤمنة بهذه الثورة، وبصدق نواياها وبسلميتها، وكنتُ أعدُ الأيام حتى يسقط نظام الأسد وتنتصر الثورة، لكن الوضع أخذ بالتدهور، وجرت الرياح بما لا تشتهي السفن.



     بدأت نظرتي للأحداث تتغير، وأخذت ثورتي بالهدوء، لم أعُد منحازة لجهةٍ دون الأخرى، فالجهتين عاثتا بالأرض فساداً، وللجهتين علاماتُ استفهام كثيرة.



     أُدرك تماماً أن الأوضاع غير جيّدة في سوريا، وأن نظام الأسد يستبد، لكني أعي أن الجيش الحر ليس بملاك. هنالك أمرٌ خارجٌ عن الإرادة يحدث، وكأن أشخاصاً يلهون بلعبة شطرنج، أو يتحكمون بإحدى ألعاب الحرب عبر الحاسوب، ولا يذهب ضحية ذلك إلا المواطنين الأبرياء.



     لم أتوقع يوماً أن هذه الجنة ستُضحي هشيماً، ولم أصدّق أن أهلها الجميلين سيتحولون إلى لاجئين في مخيّمات تفتقر إلى أدنى مقوّمات الحياة، وأن صعوبة الحياة التي يعانونها في المخيّمات ستجعلهم ينصاعون لطلبات الطامعين بهم!



     أصبحتُ أحزن على هذا الشعب العريق، وعلى الدمار الذي حلّ بوطنه، وعلى حجم الخسائر التي تكبّدها بسبب أكذوبة! وحُزني الأكبر كان على حجم الآثار النفسية التي حلّت بأطفال سوريا، تلك الآثار التي لن تبرأ أبداً.



     منذ فترة والاتصالات لا تهدأ بين والدتي وأهلها في الشام، كثيرون منهم يودّون الهروب إلى عمّان، ووالدتي تحثّهم لفعل ذلك على الدوام. وأخيراً جاء أحدهم قبل حوالي أسبوعين، إنه خالي وعائلته.



     استقبلناهم في منزلٍ غير منزلنا، فمنزلنا كان شبه مهدومٍ بسبب أعمال التجديد أو كما أحب أن أسميها "ورشة الإنعاش" التي بدأناها قبل فترة ولا تزال حتى هذه اللحظة.



     أخذناهم في جولةٍ عمّانية اطّلعوا خلالها على ما نفعله في منزلنا، كانت الورشة لا تزال في بداياتها. بعد يومَين اقتربت منّي ابنة خالي التي لم تتجاوز الخامسة، لتسألني بحذر وبصوتٍ منخفض "هاد مانو بيتكن ما؟" حين أجبتها نعم سألتني "ليش لكن إجيتو هون؟" أجبتها أن ورشة تجديد قائمة في منزلنا، لذا نحن هنا، صمتت قليلاً وكأنها تستذكر أحداث سورية، ثم قالت "إيه صحيح.. عم تصلحوا بيتكن لإنُن أوّصوا عليكن"!



     هنا صدّقت حجم الدمار الذي حلّ بسوريا، فطفلة كهذه لن تكذب ولن تُبالغ بوصف الحقيقة، وشعرتُ بالحنق من كل متسبب بتلويث ذاكرة هذه الطفلة وغيرها من الأطفال، الذين يشكلون المستقبل، فما جمعته ابنة خالي في ذاكرتها من صورٍ وأصواتٍ خلال الحرب سيستمر بإرهابها عقوداً، تأكّد لي ذلك حين كنا جالسين في إحدى الليالي على شرفة المنزل ووصلتنا أصوات ألعابٍ ناريّةٍ اعتدنا توقيتها، فهربت هذه الطفلة بخوف للاحتماء بوالدتها.   



     لستُ أدري... أهذا نتاجُ الربيع الذي يدّعيه البعض، أم أنّهُ الخريفُ الأخيرُ على هذه الأرض!


     لستُ متشائمة، لكنّي حزينة جداً لما يحدث في عالمنا، وروحي لم تعُد تُطق هذه الحياة!


     العجيب بحكاية لجوء خالي إلى عمّان، أنه بعد أسبوعٍ من مجيئه إلى هنا حمل حقائبه وعاد بعائلته إلى الشام، كان هروبه هذه المرة من "بُعبع" الأسعار الآخذ بالتمادي!